طباعة
المجموعة: فقه النظام الاقتصادي

من النظام الاقتصادي في الإسلام... في ظل دولة الخلافة على منهاج النبوة

الصرف هو استبدال عملة بعملة، أي استبدال العملة بعضها ببعض. وهو يكون إما استبدال عملة بعملة من جنس واحد، كاستبدال الذهب بالذهب والفضة بالفضة، وإما استبدال عملة بعملة من جنسين مختلفين كاستبدال الذهب بالفضة والفضة بالذهب.

أمّا استبدال عملة بعملة من جنس واحد فيشترط فيه التماثل ولا يجوز فيه التفاضل مطلقاً لأنه ربا وهو حرام، كاستبدال الذهب بالذهب واستبدال الورق النقدي الذي يمكن تحويله إلى قيمته من الذهب بالذهب، ولذلك لا يوجد في هذه الحالة سعر الصرف.

وأمّا استبدال عملة بعملة من جنسين مختلفين كاستبدال الذهب بالفضة واستبدال الجنيه الإنجليزي بالدولار والروبل بالفرنك، فإنه يجوز بشرط التقابض وتكون نسبة أحدهما للآخر هي سعر الصرف، فسعر الصرف هو نسبة الاستبدال بين عملتين مختلفتين.

 

الحاجة إلى الصرف

والذي يحمل الناس على الصرف هو حاجة أحد المصطرفين إلى العملة التي بيد المصطرف الآخر. أمّا الصرف بين الناس في العملة المتداولة في الدولة الواحدة كصرف الذهب بالفضة والفضة بالذهب فإنه واضح ويكون بين الذهب والفضة، لأن الدولة تسير على النظام الذهبي والنظام الفضي ويكون بين العملتين سعر الصرف، وهو يقرر حسب سعر السوق، ولا ضرر من تغير سعر الصرف بين العملة الواحدة التي تستعملها الدولة من جنسين مختلفين لأنه كتغير سعر السلع.

 

الصرف بين عملتين مختلفتين لدولتين أو أكثر

أمّا الصرف بين عملتين مختلفتين لدولتين أو أكثر، فهذا هو الذي توجد منه المشاكل، لذلك كان لا بد من بحثه باعتباره واقعاً وبيان الحكم الشرعي فيه وفي سعر الصرف من حيث هو.

 

أمّا باعتباره واقعاً فإن الدول تتبع أنظمة مختلفة ويختلف وضع الدول التي تتبع نظام الذهب عن وضع الدول التي تتبع النظام الورقي الإلزامي، فحين تتبع عدة دول نظام الذهب فإن سعر الصرف بينها أو نسبة الاستبدال بين عملاتها لا بد من أن تظل ثابتة تقريباً، فإن كانت تسير على الأسلوب المعدني فالأمر ظاهر، لأنك في الواقع لا تستبدل عملتين مختلفتين قد تتغير قيمة كل واحدة منهما بالنسبة للأخرى تبعاً لظروف العرض والطلب الخاصة بكل منهما، وإنما أنت تستبدل ذهباً بذهب، وكل ما في الأمر أن الذهب قد طُبع عليه في إحدى الدول شعار أو صورة مختلفة عن الشعار أو الصورة التي طُبعت عليه في الدولة الأخرى.

وسعر الصرف بين الدولتين يكون عندئذ النسبة بين وزن الذهب الصافي في عملة الدولة الأولى ووزن الذهب الصافي في عملة الدولة الثانية، وسعر الصرف بين الدول التي تتبع نظام الذهب لا يمكن أن يتغير إلاّ داخل حدين معينين يتوقفان على نفقات نقل الذهب بينهما، ويطلق عليهما اصطلاح "حَدًّي الذهب"، وحيث أن هذه النفقات تكون في الغالب صغيرة فيمكننا بشيء من التجاوز أن نقول إن سعر الصرف بين البلاد التي تتبع نظام الذهب سعر ثابت تقريباً.

وإن كانت البلاد تسير على أسلوب النقود الورقية النائبة فإنها تكون في موضوع سعر الصرف كما هي الحال في الأسلوب المعدني سواء بسواء، لأنه في هذه الحالة يقوم التداول في الواقع على النقود المعدنية، وكل ما في الأمر أنه بدلاً من أن تتداول بنفسها تقوم هذه النقود الورقية مقامها باعتبارها نائبة عنها، ولذلك تأخذ وضعها تماماً في سعر الصرف، بل تأخذ حكمها في كل شيء.

وأما إن كانت البلاد تسير على أسلوب النقود الورقية الوثيقة –أي البنكنوت- فإنها وإن كانت سائرة على النظام الذهبي إلاّ أن الذهب يغطي جزءاً من قيمتها وليس هو قيمتها كلها، ولذلك تختلف قيمتها بحسب احتياطي الذهب الذي لها، ويتكون بينهما سعر الصرف، إلاّ أن سعر الصرف هذا يظل ثابتاً وتسهل معرفته لأنه يتوقف على نسبة احتياطي الذهب، وهي كميات معروفة واضحة.

وأمّا إذا اتبعت عدة دول النظام الورقي الإلزامي فإنه ينشأ عندئذ موضوع تحديد سعر الصرف بينها، فإنه عند امتناع تحويل العملة إلى ذهب بسعر محدود فإن المشكلة التي تواجه الدول حينئذ هي كيف يتحدد سعر الصرف بين هذه الدول التي تتبع النظام الورقي الإلزامي؟

تحديد سعر الصرف في النظام الورقي الإلزامي

وحل هذه المشكلة هو أن العملات الورقية المختلفة هي سلع مختلفة يتداول الناس فيها في السوق النقدي العالمي، ويشترونها لا لذاتها وإنما لقدرتها على شراء سلع أخرى في مواطنها الأصلية، لذلك فإن نسبة الاستبدال بين عملتين ورقيتين –أو سعر الصرف بينهما- يتحدد تبعاً للقوة الشرائية لكل منهما في موطنها الخاص، وعلى هذا فسعر الصرف هو نسبة الاستبدال بل عملتين، فلو كانت مصر وإيطاليا تتبعان النظام الورقي وكانت الليرة الإيطالية تشتري في إيطاليا عشر وحدات من السلع وكان الجنيه المصري يشتري في مصر مائة وحدة من السلع لكانت نسبة الاستبدال بينهما هي جنيه مصري واحد لكل عشر ليرات إيطالية، إلاّ أن سعر الصرف هذا يمكن أن يتغير، لأن العملات الورقية هي عبارة عن سلع مختلفة يتبادل الناس بها في السوق النقدي العالمي، ويشترونها لا لذاتها وإنما لقدرتها على شراء سلع وجهود من البلدان التي أصدرتها، فترتفع قيمتها بانخفاض أسعار السلع في مواطنها الأصلية، وتنخفض بارتفاع أسعار تلك السلع.، فمنفعة العملة الأجنبية عندنا تتوقف على قوتها الشرائية، فإن زادت هذه القوة زادت منفعتها لدينا وازداد استعدادنا لدفع كمية أكبر من عملتنا للحصول على كمية تقابلها من العملة الأجنبية، وإن قلَّت هذه القوة قلَّت منفعة تلك العملة لدينا وقلَّ استعدادنا لدفع كمية كبيرة من عملتنا للحصول على كمية من العملة الأجنبية، لأن تلك العملة الأجنبية صارت لا تستطيع أن تشتري بها في مواطنها الأصلية بالقدر الذي كانت تشتريه، في حين أن عملتنا لا تزال محافظة على قيمتها. فلو فرضنا أن مستوى الأسعار بين مصر وإنجلترا في سنة معينة كان مائة في البلدين، وكان سعر الصرف بينهما هو جنيه مصري لكل جنيه إنجليزي فإن سعر الصرف يكون متعادلاً، ويكون القصد من الصرف هو الحصول على سد الحاجة من البضائع الإنجليزية، ولذلك لا يحصل إقبال ولا إعراض على الجنيه الإنجليزي في بلادنا، ولكن لو ارتفع مستوى الأسعار عندنا إلى مائتين وبقي مستوى الأسعار في إنجلترا مائة فإن الجنيه الإنجليزي في بلادنا تتضاعف قيمته فيصبح سعر الصرف هو جنيه مصري لنصف جنيه إنجليزي، فيحصل الإقبال على الجنيه الإنجليزي لانخفاض الأسعار في إنجلترا، ويقل الإقبال على الجنيه المصري لارتفاع الأسعار في مصر، ويترتب على ذلك أن طلب الإنجليز للجنيهات المصرية سيقل، وبالتالي سيقل إقبالهم على السلع المصرية وسيفضلون عليها حتماً سلعهم الحالية، لأن أسعار السلع المصرية قد ارتفعت إلى الضعف بينما أسعار السلع المنتَجة عندهم قد ظلت كما هي، وهكذا يتغير سعر الصرف تبعاً لتغير أسعار السلع في البلد التي أصدرت العملة، ولو ارتفع مستوى الأسعار في بلد ما عنه في بلد آخر بسبب زيادة النقود مثلاً فإن سعر الصرف لا بد أن يتغير بينهما فتنخفض القيمة الخارجية لعملة الدولة التي ارتفعت الأسعار فيها.

إن أسعار الصرف بين عملة دولة ما والعملات الأجنبية تتمشى مع العلاقة بين أسعار الصرف للعملات الأجنبية فيما بينها، بمعنى أنه لو كان الدينار العراقي يعادل 100 ريال إيراني أو 200 ليرة إيطالية أو 400 فرنك فرنسي فإن أسعار الصرف بين العملات الأجنبية هذه تكون في إيران هي ريال واحد إيراني= ليرتين إيطالية أو أربعة فرنكات فرنسية، وفي إيطاليا ليرة إيطالية واحدة= فرنكين فرنسي أو نصف ريال إيراني، وهكذا. وهذا هو ما يحدث فعلاً لو كانت كل دولة تترك القيمة الخارجية لعملتها تتغير تبعاً لتغير مستوى الأسعار فيها، ولا تفرِض القيود الثقيلة على حركة التجارة الدولية، وعلى تحويل النقد الأجنبي إلى نقد محلي أو النقد المحلي إلى نقد أجنبي. ولكن قد تحاول دولة المحاولة على القيمة الخارجية لعملتها رغم ارتفاع الأسعار فيها، وذلك بواسطة تحديد طلب المستوردين فيها على السلع الأجنبية عن طريق التقليل من رخص الاستيراد مثلاً، وفي مثل هذه الحالة قد يختل التناسب بين أسعار الصرف المختلفة في البلاد المختلفة، فهذا الاختلاف في التناسب بين أسعار الصرف لا يمكن أن يحدث إلاّ إذا فرضت بعض الدول قيوداً على عمليات النقد الأجنبي فيها، وذلك لأنه إن لم توجد هذه القيود فإن التاجر قد يتمكن من استبدال العملة فيربح، ويتهافت الناس على ذلك، فتنتج إعادة التناسب مرة أخرى بين أسعار الصرف المختلفة. وهذه القيود على المعاملات الصرفية ظاهرة شائعة في كثير من البلاد في سِنِي الحرب وفي حالات الاختلال الاقتصادي الشديد الذي قد يُلِم بها، وإننا لنجد في مثل هذه الأوقات أن قيمة عملة الدولة التي تقيد معاملاتها النقدية بهذه القيود تختلف من بلد إلى آخر تبعاً للأنظمة النقدية المتبعة في كل بلد، ففي البلد الذي فيه نظام سعر الصرف الموحد يظل سعر الصرف الرسمي بين عملته وعملة الدولة المذكورة ثابتاً، إذ يشتريها البنك المركزي والبنوك المرخص لها بمزاولة عمليات النقد الأجنبي بسعر ثابت ويبيعها بسعر ثابت.

أمّا في البلاد التي تتبع نظام سعر الصرف الموحد والتي لا يتعهد فيها البنك المركزي بشراء أو بيع العملات الأجنبية بسعر معين فإن أسعار هذه العملات الأجنبية تتغير بين وقت وآخر تبعاً لظروف العرض والطلب. ويوصف نظام الصرف في البلاد التي تسمح بتغيرات أسعار العملات الأجنبية فيها تبعاً لظروف العرض والطلب بأنه نظام أسعار الصرف المتغيرة، ويلاحَظ أن أسعار الصرف فيه قد لا تنشأ فقط عن تغيرات مستويات الأسعار بينه وبين البلاد الأخرى، وإنما قد تنشأ أيضاً بسبب تحديد حركة التجارة الدولية أو اختلال الموازين الحسابية للدول المختلفة لأي سبب. وفي بعض البلاد يكون نظام أسعار الصرف المتغيرة مسموحاً به قانوناً كلبنان، فإنه بلد تسمح فيه الحكومة بتغير أسعار الصرف تبعاً للتغيرات اليومية الطارئة على ظروف العرض والطلب. وفي بعض البلدان الأخرى يكون نظام أسعار الصرف المتغيرة ممنوعاً، ولكنه مع ذلك قد توجد فيه معاملات بين الأفراد ترمي إلى بيع أو شراء عملات أو حسابات أجنبية بأسعار تختلف كل الاختلاف عن الأسعار الرسمية.

هذا هو الصرف وسعر الصرف لدى الدول القائمة في العالم، وبعبارة أخرى هذا هو واقع الصرف وواقع سعر الصرف في بلدان العالم.

 

أمّا الحكم الشرعي بالنسبة للصرف وسعر الصرف فإن دولة الخلافة تسير على نظام الذهب، سواء أجعلته نظاماً معدنياً أم جعلته نقوداً ورقية نائبة لها مقابل من الذهب والفضة مساوٍ لقيمتها الاسمية تماماً، وسواء جعلت للنقد المعدني صفة معينة لا تختلف أم لم تجعل، فإنها ملزَمة بالسير عليه لأنه حكم شرعي، وتترتب عليه عدة أحكام شرعية، والصرف في داخلها بين الجنس الواحد يجب فيه التماثل ولا يجوز فيه التفاضل، وكذلك الصرف في خارجها بين الجنس الواحد لا يختلف مطلقاً، فالحكم الشرعي واحد لا يتغير، وأمّا الصرف بين جنسين مختلفين فإنه يجوز فيه التفاضل والتماثل -كالصرف بين الذهب والفضة- على شرط التقابض يداً بيد بالذهب والفضة، ولا فرق في ذلك بين الصرف في الداخل وفي الخارج، لأن الحكم الشرعي واحد لا يتغير، فكما جاز التفاضل في الصرف بين الذهب والفضة في الداخل يداً بيد فكذلك يجوز التفاضل بينهما في الخارج يداً بيد. وكذلك الحال في الصرف بين عملة دولة الخلافة وعملات الدول الأخرى من النقود المعدنية والنقود الورقية النائبة أي التي لها مقابل من الذهب والفضة مساو تماماً لقيمتها الاسمية، فإنه يجوز فيها التفاضل عند اختلاف الجنس، ولكن على شرط أن يكون يداً بيد في الذهب والفضة، ولكن لا يجوز فيه التفاضل عند اتحاد الجنس، بل يجب التماثل لأن التفاضل ربا وهو حرام شرعاً.

أمّا النقود الورقية الوثيقة، وهي التي يغطى قسم من قيمتها؛ أي التي يكون لها احتياطي أقل من قيمتها الاسمية، فإنها تعتبر قيمتها النقدية بمقدار ما لها من احتياطي، وتُصرف بعملتنا الإسلامية على هذا الاعتبار، وتأخذ حينئذ بهذا الاعتبار وبهذا المقدار، حكم الصرف بين الذهب والفضة في النقد المعدني مع اعتبار قيمة الاحتياطي فقط عند حساب الصرف.

أما النقود الورقية الإلزامية وهي نقود ليست نائبة عن ذهب أو فضة ولا مستندة إلى ذهب أو فضة فإنها تأخذ حكم النقدين المختلفين فيجوز فيها التفاضل والتماثل لكن لا بد من أن يكون ذلك يدا بيد .

وعلى هذا فالصرف بين عملة دولة الخلافة وبين عملات الدول الأخرى جائز كالصرف بين عملتها سواء بسواء. وجائز أن يتفاضل الصرف بينهما لأنهما من جنسين مختلفين، على شرط أن يكون يداً بيد بالنسبة للذهب والفضة.

ونسبة الاستبدال بين الذهب والفضة، أو سعر الصرف بينهما ليس ثابتاً تماماً وإنما يتغير بحسب سعر السوق للذهب والفضة. ولا فرق في ذلك بين الصرف في الداخل وبينه في الخارج. وكذلك الحال بين عملة دولة الخلافة وعملات الدول الأخرى، فإنه جائز أن يتغير سعر الصرف بينهما.

إلاّ أن سعر الصرف بين عملة دولة الخلافة وعملات الدول الأخرى لا يؤثر في دولة الخلافة لسببين اثنين: