فقه أنظمة دولة الخلافة على منهاج النبوة

كما شرع الله الزواج شرع أيضاً الطلاق. والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة وإجماع الصحابة. أما الكتاب فقد قال الله تعالى: { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وقال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}. وأما السنة فقد رُوي عن عمر بن الخطاب: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلق حفصة ثم راجعها» أخرجه الحاكم وابن حبان، ورُوي عن عبد الله بن عمر قال: «كانت تحتي امرأة أحبها وكان أبي يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا عبد الله بن عمر، طلق امرأتك» أخرجه الترمذي والحاكم. وقد أجمع الصحابة على مشروعية الطلاق.

 والطلاق هو حل قيد النكاح، أي حل عقدة التزويج، وليس لجواز الطلاق أية علة شرعية، فإن النصوص التي وردت في حله لم تتضمن أية علة، لا نصوص القرآن ولا نصوص الحديث. فهو حلال لأن الشرع أحله وليس لأي سبب آخر.

والتطليق الشرعي ثلاث تطليقات، تطليقة بعد تطليقة فإن طلق واحدة فقد أوقع تطليقة واحدة، وجاز له أن يرجعها أثناء العدة دون عقد جديد، وإن طلقها طلقة ثانية فقد أوقع تطليقتين اثنتين، وجاز له أن يراجعها أثناء العدة دون عقد جديد. فإن انقضت العدة في هاتين الحالتين ولم يراجعها فإنها أصبحت بائنة منه بينونة صغرى، ولا يحل له أن يراجعها إلا بعقد ومهر جديدين. فإن طلقها ثالثة فقد أوقع ثلاث تطليقات، وبانت منه بينونة كبرى، لا يجوز له أن يراجعها إلا بعد أن تتزوج شخصاً آخر ويدخل بها وتنقضي عدتها منه قال الله تعالى: { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)} ثم خيرهم بعد أن علَّمهم بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بواجبهن، وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي عليهم. ثم قال: { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}، أي فإن طلقها ثالثة بعد المرتين السابقتين فلا تحل له من ذلك التطليق حتى تتزوج غيره، ثم قال: { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا}، أي فإن طلقها الزوج الثاني فيجوز حينئذ للزوج الأول أن يرجعها له بعقد ومهر جديدين. وفاعل كلمة طلقها الثاني يعود على أقرب مذكور وهو كلمة { زَوْجاً غَيْرَهُ} أي الزوج الثاني، وفاعل يتراجعا يعود على الزوج الأول. أي لا مانع من أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج. وعلى ذلك فإن الرجل يملك على المرأة ثلاث تطليقات، منها اثنتان يجوز له أن يراجعها فيهما، والثالثة لا يجوز أن يراجعها حتى تنكح زوجاً غيره.

والطلاق بيد الرجل وليس بيد المرأة وهو الذي يملكه وليست هي. أما لماذا يكون بيد الرجل فلأن الله تعالى قد جعله بيده، ولم يرد من الشرع تعليل لذلك، فلا يعلل. نعم إن التبصر في واقع الزواج والطلاق يري أنه لما كان الزواج ابتداء حياة زوجية جديدة كان الرجل والمرأة متعاونين في اختيار كل منهما زوجه الذي يريده، وكان لكل منهما التزوج بمن يشاء، ورفض الزواج بمن يشاء، ولكن لما حصل الزواج بالفعل، وأعطيت قيادة الأسرة للزوج، وجعلت له القوامة عليها، كان من المحتم أن يكون الطلاق بيد الرجل، وأن يكون من حقه، لأنه رئيس العائلة ورب الأسرة. فعليه وحده ألقيت مسؤولية البيت وتكاليفه. فيجب أن تكون له وحده صلاحية حل عقدة التزويج. فالصلاحية بقدر المسؤولية، والتفريق بين الزوجين بيد القوَّام منهما على الآخر. ولكن هذا وصف لواقع موجود، وليس تعليلاً لحكم شرعي، لأن علة الحكم الشرعي لا يجوز أن تكون إلا علة شرعية قد وردت في نص شرعي.

غير أنه ليس معنى كون الطلاق بيد الرجل، وله وحده، أنه لا يجوز لها أن تطلق نفسها وتحدث فرقة بينها وبينه، بل إن الصلاحية له وحده أصلاً، وإطلاقاً، دون أي تقييد بحالة من الحالات، بل له أن يطلق حتى ولو كان ذلك لغير سبب. ولكن الزوجة لها أن تطلق نفسها، وتوقع الفرقة بينها وبين الرجل في حالات معينة، نص عليها الشرع. فقد أباح لها الشرع أن تفسخ عقد النكاح في الأحوال الآتية:

  1. إذا جعل الزوج أمر طلاقها بيدها. فإن لها أن تطلق نفسها حسب ما ملّكها إياه. فتقول طلقت نفسي من زوجي فلان، أو تخاطبه قائلة طلقت نفسي منك. ولا تقول طلقتك، أو أنت طالق، لأن الطلاق يقع على المرأة لا على الرجل، حتى لو صدر الطلاق منها. وإنما جاز أن يجعل الزوج أمر الطلاق بيد الزوجة لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خير نساءه ولإجماع الصحابة على ذلك.
  2. إذا علمت أن في الزوج علة تحول دون الدخول، كالعنة، والخصاء إذا كانت سالمة من مثلها. فإن لها في مثل هذه الحالة أن تطلب فسخ نكاحها منه، فإذا تحقق الحاكم من وجود العيب أجّله سنة فإن لم يصبها أجيب طلبها وفسخ النكاح. فقد رُوي أن ابن منذر تزوج امرأة وهو خصي فقال له عمر أعلمتها قال لا. قال أعلمها ثم خيرها. ورُوي أن عمر أجل العنين سنة. وإذا وجدت المرأة زوجها مجبوباً أو مشلول الذكر ثبت لها الخيار في الحال، ولا يضرب لها أجل، لأن الوطء ميئوس منه ولا معنى لانتظاره.
  3. إذا ظهر للزوجة قبل الدخول أو بعده أن الزوج مصاب بمرض من الأمراض التي لا يمكن الإقامة بها معه بلا ضرر، كالجذام والبرص، والزهري والسل، أو طرأ عليه مثل هذه الأمراض، فإن لها أن تراجع القاضي وتطلب التفريق بينها وبين زوجها، ويجاب طلبها إذا ثبت وجود هذا المرض، وعدم إمكان البرء منه في مدة معينة. وخيارها دائم وليس بمؤقت، بناءً على قاعدة الضرر واستئناساً بما ورد في الموطأ عن مالك أنه بلغه عن سعيد بن المسيب أنه قال: «أيما رجل تزوج امرأة وبه جنون أو ضرر فإنها تخير فإن شاءت قرت، وإن شاءت فارقت».
  4. إذا جن الزوج بعد عقد النكاح، فللزوجة أن تراجع القاضي وأن تطلب تفريقها منه. والقاضي يؤجل التفريق مدة سنة. فإذا لم تزل الجنة في هذه المدة، وأصرت الزوجة، يحكم القاضي بالتفريق وذلك لما ذكرناه في البند السابق.
  5. إذا سافر الزوج إلى مكان، بعد أو قرب، ثم غاب وانقطعت أخباره وتعذر عليها تحصيل النفقة، فإن لها أن تطلب التفريق منه بعد بذل الجهد في البحث والتحري عليه وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن الزوجة تقول لزوجها «أطعمني وإلا فارقني» أخرجه الدارقطني وأحمد، فجعل عدم الإطعام علة للفراق.
  6. إذا امتنع الزوج عن الإنفاق على زوجته وهو موسر، وتعذر عليها الوصول إلى ماله للإنفاق بأي وجه من الوجوه فإن لها أن تطلب التطليق وعلى القاضي أن يطلق عليه في الحال دون إمهال، لأن الرسول يقول: «امرأتك ممن تعول تقول أطعمني وإلا فارقني» أخرجه الدارقطني وأحمد، ولأن عمر رضي الله عنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا، وقد عرف الصحابة ذلك ولم ينكروا عليه فكان إجماعاً.
  7. إذا ظهر بين الزوجين نزاع وشقاق، فإن لها أن تطلب التفريق، وعلى القاضي أن يعين حكماً من أهل الزوجة، وحكماً من أهل الزوج. والمجلس العائلي هذا يصغي إلى شكاوى الطرفين، ويبذل جهده للإصلاح، وإن لم يمكن التوفيق بينهما يفرق هذا المجلس بينهما على الوجه الذي يراه، مما يظهر له من التحقيق. قال تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً}.

ففي هذه الحالات أعطى الشرع للمرأة حق تطليق نفسها في الحالة الأولى، وحق طلب التفريق بينها وبين زوجها في الحالات الباقية. وواقع هذه الحالات يري أن الشارع نظر إلى أن المرأة صاحبة الزوج في هذه الحياة الزوجية، وكل كدر ومقت يحصل في البيت يصيبها كما يصيب الزوج، فكان لا بد من أن يضمن لها أن تتخلص من الشقاء إذا أصابها في البيت، بحل عقدة الزواج من قبلها، ولذلك لم يتركها الشارع مجبرة على البقاء مع الزوج إذا تعذرت الهناءة الزوجية. فأباح لها الشرع أن تفسخ عقد النكاح في الأحوال التي يتحقق معها عدم إمكانية العشرة، أو عدم توفر الهناءة الزوجية.

وبهذا يتبين أن الله قد جعل الطلاق بيد الرجل، لأنه هو القوَّام على المرأة، والمسؤول عن البيت، وجعل للمرأة حق الفسخ للنكاح، حتى لا تشقى في زواجها، ولا يصبح البيت الذي هو محل هناء واستقرار موطن شقاء وقلق لها.

أما ما هي العلة في مشروعية الطلاق فقد قلنا إن النصوص الشرعية لم تعلل الطلاق فلا علة له ولكنه يمكن بيان واقع تشريع الطلاق، والكيفية التي وردت فيها مشروعيته بالنسبة للزواج، ولما يترتب عليه.

فإن واقع الزواج يدل على أنه وجد من أجل تكوين الأسرة، وتوفير الهناء لهذه الأسرة. فإذا حدث في هذه الحياة الزوجية ما يهدد هذا الهناء، ووصل الحال إلى حد تتعذر فيه الحياة الزوجية فلا بد أن تكون هنالك طريقة يستعملها الزوجان للانفكاك من بعضهما. ولا يجوز أن يرغما على بقاء هذه الرابطة على كره منهما، أو من أحدهما. وقد شرع الله الطلاق. قال تعالى: { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} حتى لا يظل الشقاء في البيت، وحتى تظل الهناءة الزوجية قائمة بين الناس. فإن تعذر قيامها بين اثنين لعدم توافق طباعهما، أو لأنه طرأ ما أفسد عليهما حياتهما كان لهما أن يعطيا فرصة ليعمل كل منهما على إيجاد الهناءة الزوجية مع آخر. إلا أن الإسلام لم يجعل مجرد التذمر والكراهة سبباً للطلاق. بل أمر الزوجين بالعشرة بالمعروف. وحث على تحمل الكراهة فلعل فيها خيراً. قال تعالى: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}. وأمر الرجال باستعمال الوسائل التي بها يخففون من حدة النساء من نشوزهن. فقال تعالى: { وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} وهكذا أمر باتخاذ جميع الأسباب اللينة، وغير اللينة، لمعالجة المشاكل التي تحصل بين الزوجين، معالجة تحول بينهما وبين الطلاق. حتى إذا لم تنفع العشرة بالمعروف، ولم ينفع غيرها من الوسائل الشديدة، وتجاوز الأمر الكراهة والتذمر والنشوز، إلى النزاع والشقاق، فإن الإسلام لم يجعل الخطوة الثانية هي الطلاق، بالرغم من شدة الأزمة بينهما. بل أمر أن يحال الأمر إلى غير الزوجين من أهليهما، ليقوما بمحاولة الإصلاح مرة أخرى، فقال تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً }، فإن لم يستطع هذان الحكمان أن يوفقا بين الزوجين فحينئذ لا مجال لإبقاء الحياة الزوجية بينهما بعد كل هذه المحاولات. إذ تكون العقدة النفسية عندهما غير قابلة للحل إلا بالتفريق بينهما. فكان لا بد من الطلاق لعلهما يجدان الهناءة الزوجية، أو لعل هذه العقدة تحل بهذا الطلاق، قال تعالى: { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً}.

إلا أن هذا الطلاق قد تركت فيه كذلك الفرصة للزوجين ولم يكن فراقاً حاسماً بينهما، بل جعل لهما حق المراجعة للمرة الأولى، والثانية. إذ قد يثير بينهما الطلاق الأول أو الثاني في نفس الزوجين رغبة جديدة لمعاودة الحياة الزوجية بينهما مرة ثانية بعد الطلقة الأولى، ومرة ثالثة بعد الطلقة الثانية. ومن هنا نجد أن الشرع جعل الطلاق ثلاث مرات، فقال تعالى: { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} حتى يترك للزوجين أن يراجع كل منهما نفسه، وأن يرجع إلى تقوى الله المتركزة في صدره، فلعلهما يحاولان إعادة تجربة الحياة الزوجية مرة أخرى، فينالان الهناءة الزوجية أو الراحة والطمأنينة التي لم يكونا ينالانها من قبل. ومن هنا نجد أن الإسلام أباح للزوج أن يراجع زوجته بعد الطلقة الأولى والثانية. كما أنه جعل ما يساعد الزوجين على مراجعة نفسهما، وإعادة التفكير في الأمر، والنظر إليه نظرة جدية أكثر مما كان ينظران إليه. إذ جعل فترة العدة بعد الطلاق ثلاث حيضات، وهي تقرب من ثلاثة أشهر، أو وضع الحمل، وجعل على الزوج واجب الإنفاق على هذه المطلقة وإسكانها طوال مدة العدة، ومنع الزوج من إخراج معتدته حتى تستوفي عدتها، وذلك تأليفاً للقلوب، وتصفية للنفوس. وإفساحا للطريق التي بها يرجعان إلى بعضهما، ويستأنفان الحياة الصافية الجديدة، ووصى من هذه الناحية توصيات صريحة في القرآن قال تعالى: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) } فإن لم تؤثر هذه المعاملات، أو أثرت بعد الطلقة الأولى والثانية ثم حصلت الثالثة رغم كل ذلك فإن المسألة حينئذ تكون أعمق جذوراً، وأكثر تعقيداً وأشد شقاقاً، ولا فائدة حينئذ من المراجعة، فضلاً عن بقاء الزواج. فكان لا بد من الفراق التام واستئناف عشرة أخرى حتماً. دون إعادة التجربة الفاشلة لنفس العشرة، قبل تجربة عشرة أخرى. ولذلك جعل الطلاق الثالث حاسماً، فقال تعالى: { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ومنع مراجعة الزوج لزوجته مطلقاً بعد الطلقة الثالثة حتى تعاشر زوجاً آخر غيره، ويدخل بها. «حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها» لتختبر العشرة الزوجية كاملة. فإن جربت عشرة زوجية أخرى مع غيره تجربة طبيعية، ولم تجد في هذه العشرة الثانية راحتها وطمأنينتها، وحصل الفراق بينها وبين زوجها الثاني، فحينئذ صار بإمكانها أن ترجع إلى العشرة الزوجية مع الزوج الأول، لأنها تكون قد مرت في تجربة ثانية للعشرة الزوجية مع الزوج الثاني، ووازنت بينهما. فحين تختار الرجوع تختار عن معرفة. ومن هنا نجد الشارع قد أباح لها الرجوع إلى الزوج الأول الذي طلقها ثلاثاً بعد زواجها من زوج آخر. قال تعالى: { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } ثم قال بعد ذلك مباشرة في نفس الآية { فَإِن طَلَّقَهَا} أي الزوج الثاني الذي هو غير الأول { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي الزوج الأول ومطلقة الثاني { أَن يَتَرَاجَعَا} أي يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج.

هذا هو ما ترشد إليه كيفية تشريع الطلاق، وبها يظهر ما في تشريع الطلاق وطريقة تشريعه، وكيفية إيقاعه من الحكمة البالغة، والنظر الدقيق للحياة الاجتماعية، ليضمن لها العيش الهنيء. فإن فقدت هذه الهناءة، ولم يبق أمل في إرجاعها كان لا بد من انفصال الزوجين. ولذلك شرع الله الطلاق على الوجه الذي بيناه.

 

إن وجدت خيرا فانشره، فالدال على الخير كفاعله، دولة الخلافة، - نصر نت - nusr.net