طباعة
المجموعة: فقه النظام الاجتماعي

فقه أنظمة دولة الخلافة على منهاج النبوة

العزل هو أن ينزع الرجل إذا قرب من الإنزال لينزل خارجاً من الفرج. والعزل جائز شرعاً، فيجوز للرجل إذا جامع امرأته، وقرب من الإنزال، أن ينزل ماءه خارج الفرج، فقد روى البخاري عن عطاء عن جابر قال: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن ينزل» ورُوي أيضاً عن عطاء أنه سمع جابراً رضي الله عنه يقول: «كنا نعزل والقرآن ينزل» متفق عليه، ولمسلم «كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبلغه ذلك فلم ينهنا» وهذا تقرير من رسول الله على العزل، فيدل على جوازه، لأنه لو كان العزل حراماً لم يسكت عنه.

على أن حكم العزل هذا أضيف من الصحابي إلى زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والصحابي إذا أضاف الحكم إلى زمن النبي عليه السلام كان له حكم الرفع، لأن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على ذلك وأقره، لتوفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام. وقد وردت في جواز العزل عدة أحاديث صحيحة. فقد روى أحمد ومسلم وأبو داود عن جابر «أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وسانِيَتُنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل فقال: اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها» وروى مسلم عن أبي سعيد قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبياً من العرب فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العزبة، وأحببنا العزل فسألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما عليكم أن لا تفعلوا فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة» وروى أبو داود عن جابر قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «إن لي جارية وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل فقال: اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها».

دوافع العزل

والعزل جائز مطلقاً مهما كان قصد العازل، سواء قصد من ذلك عدم النسل، أو تقليل الأولاد، أو قصد الشفقة على الزوجة لضعفها عن الحمل والولادة، أو قصد عدم إرهاقها حتى تظل شابة يتمتع بها، أو قصد أي غرض آخر فإن للزوج أن يعزل مهما كان قصده، وذلك لأن الأدلة التي وردت في ذلك مطلقة، ولم تقيد بحال من الأحوال، وعامة لم يرد لها أي تخصيص، فتبقى على إطلاقها وعمومها. ولا يقال إن العزل قتل للولد قبل خلقه، فقد وردت أحاديث صريحة ترد على ذلك. فقد روى أبو داود عن أبي سعيد «أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى. قال: كذبت يهود لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه» وقد ورد النص بجواز العزل بقصد عدم الأولاد. فقد روى أحمد ومسلم عن أسامة بن زيد: «أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال إني أعزل عن امرأتي. فقال له: لم تفعل ذلك؟ فقال له الرجل: أشفق على ولدها، أو على أولادها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو كان ضاراً ضر فارس والروم» فهنا قال له الرسول: «لم تفعل» ولم يقل له لا تفعل. ويفهم من الحديث أنه أقره ولكنه أخبره أن مجيء الأولاد بعد الأولاد لا يضر بدليل ما وقع عند مسلم في حديث أسامة بن زيد، جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «إني أعزل عن امرأتي شفقة على ولدها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن كان كذلك فلا، ما ضر ذلك فارس ولا الروم». وعند مسلم من طريق عبد الرحمن بن بشر عن أبي سعيد «خشية أن يضر الحمل بالولد الرضيع»، وإذا كان الرسول أقر العزل لأجل عدم الحمل حتى لا يتضرر الولد الرضيع فهو يصدق على العزل لأجل عدم الحمل فراراً من كثرة العيال، أو فراراً من حصولهم من الأصل، أو غير ذلك. لأن الله إذا علم أن الولد سيأتي فلا بد أن يأتي سواء عزل أو لم يعزل. ولذلك روى ابن حبان من حديث أنس أن رجلاً سأل عن العزل فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج منها ولداً» ولا يقال إن تقليل النسل يخالف ما حث به صلى الله عليه وآله وسلم من كثرة النسل حين قال: «تناكحوا تناسلوا تكثروا» ، لا يقال ذلك لأن إباحة العزل لا تخالف الحث على تكثير النسل، فذاك ترغيب في تكثير النسل، وهذا إباحة للعزل. وأما ما رواه أحمد عن جذامة بنت وهب الأسدية قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أناس وهو يقول: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم شيئاً، ثم سألوه عن العزل. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ذلك الوأد الخفي وهي: وإذا الموءودة سئلت» فإن هذا الحديث يعارض الأحاديث الصحيحة الصريحة في جواز العزل، وإذا تعارض حديث مع أحاديث أخرى أكثر منه طرقاً رجحت الأحاديث التي أكثر طرقاً ورد الحديث. وبناء على ذلك يرد هذا الحديث لمعارضته ما هو أقوى منه وأكثر طرقاً في الرواية.

ولا يقال إن الجمع بين هذا الحديث وأحاديث جواز العزل هو أن يحمل هذا الحديث على كراهة العزل، لأن ذلك ممكن لو لم يكن هنالك تصادم في نفي الرسول في حديث آخر لنفس المعنى الذي جاء به هذا الحديث. فالحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن أبي سعيد «وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى قال: كذبت يهود». وحديث جذامة يقول: «ذلك الوأد الخفي وهي: وإذا الموءودة سئلت»، فلا يمكن الجمع بين هذين الحديثين، فإما أن يكون أحدهما منسوخاً، أو أن يكون أحدهما أقوى من الآخر فيرد الأضعف، وبما أن تاريخ الحديثين غير معروف، وحديث أبي سعيد مؤيد بأحاديث عديدة، ومن طرق عديدة. وحديث جذامة جاء منفرداً، ولم يؤيد بشيء، فيرد ويرجح ما هو أقوى منه. وعلى ذلك يكون العزل جائزاً مطلقاً دون أية كراهة، مهما كان قصد العازل من العزل لعموم الأدلة. ولا يحتاج الرجل حتى يعزل إلى إذن زوجته لأن الأمر متعلق به وليس بها، ولا يقال إن الجماع حقها فصار الماء حقها فلا يريقه خارج فرجها إلا بإذنها، لأن هذا تعليل عقلي، وليس بشرعي ولا قيمة له، فضلاً عن أنه منقوض بأن حقها هو الجماع، وليس إنزال الماء، بدليل أن العنين إذا وصل إلى المرأة ولم ينزل فيعتبر قد انتهى حقها بهذا الوصول، فلا يكون حينئذ لها حق الفسخ. وأما ما رواه ابن ماجة عن عمر بن الخطاب قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها» فإنه حديث ضعيف وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال. وبذلك تبقى الأحاديث مطلقة في جواز العزل.

وسائل والعزل

وحكم العزل هذا ينطبق على استعمال الدواء، واستعمال الكيس أو استعمال اللولب لمنع الحمل، فإنها كلها من باب واحد، لأن أدلة جواز العزل منطبقة عليها تمام الانطباق، وهي مسألة من مسائلها، إذ الحكم هو جواز أن يقوم الرجل بعمل يمنع الحمل، سواء أكان عزلاً أم غيره، وما جاز للرجل جاز للمرأة، لأن الحكم هو جواز منع الحمل بأية وسيلة من الوسائل.

حرمة منع الحمل الدائم الذي يوجد العقم

وهذا الجواز لمنع الحمل هو خاص بمنع الحمل المؤقت. أما منع الحمل الدائم وإيجاد العقم فإنه حرام، فاستعمال الأدوية التي تمنع الحمل نهائياً وتقطع النسل، وإجراء العمليات الجراحية التي تمنع الحمل نهائياً وتقطع النسل حرام، لا يجوز القيام به، لأن ذلك نوع من الخصاء، وداخل تحته، ويأخذ حكمه، لأن هذه الاستعمالات تقطع النسل، كما يقطعه الخصاء، وقد ورد النهي الصريح عن الخصاء. عن سعد بن أبي وقاص قال: «رد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا» متفق عليه، وكان عثمان بن مظعون قد جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «يا رسول الله إني رجل يشق عليّ العزوبة فأذن لي بالاختصاء، قال: لا، ولكن عليك بالصيام» وفي لفظ آخر قال: «يا رسول الله، أتأذن لي في الاختصاء؟ قال: إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة» وعن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا بالباءة، وينهى عن التبتل نهياً شديداً، ويقول: تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» أخرجه أحمد.

كما أن قطع النسل الدائم يتناقض مع جعل الشارع النسل والإنجاب هو الأصل من الزواج لذلك قال تعالى في معرض المنّة على الناس { والله جعل لكم من انفسكم ازواجا وجعل لكم من ازواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات افبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون } وقد جعل الشارع تكثير الأولاد مندوباً، وحض عليه، ومدح فاعله. فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة» أخرجه أحمد، وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «انكحوا أمهات الأولاد فإني أباهي بكم يوم القيامة» أخرجه أحمد، وعن معقل بن يسار قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال: لا، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم» أخرجه أبو داود. ومعنى أصبت: وجدت أو أردت.

إسقاط الجنين

إن جواز منع الحمل المؤقت بالعزل وغيره من وسائل منع الحمل، لا يعني جواز إسقاط الجنين، فإسقاط الجنين إذا نفخت فيه الروح يكون حراماً، سواء كان الإسقاط بشرب دواء أو بحركات عنيفة، أو بعملية طبية، وسواء حصل من الأم أو من الأب، أو من الطبيب، لأنه تعدٍ على نفس إنسانية معصومة الدم. وهو جناية توجب الدّية، ومقدارها غُرّة عبد أو أَمَة، وقيمتها عشر دية الإنسان الكامل. قال تعالى: { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق} وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرّةِ عبدٍ أو أَمَةٍ» وأقل ما يكون به السقط جنيناً فيه غرة أن يتبيّن من خَلْقه شيء من خَلْق الآدمي، من أصبع أو يد أو رجل أو رأس أو عين أو ظفر.

أما إن كان إسقاط الجنين قبل أن تنفخ فيه الروح، فإن حصل الإسقاط بعد مرور أربعين يوماً من ابتداء الحمل، حيث يبدأ التخلق، روى مسلم عن ابن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى فيقضى...» وفي رواية أربعين ليلة، وعند بدء التخلق للجنين فإن إسقاطه يأخذ حكم إسقاط الجنين بعد نفخ الروح فيه من الحرمة، ووجوب الدّية فيه التي هي غُرَّة: عَـبْـدٌ أو أَمَـةٌ. وذلك أنه إذا بدأ تخلّق الجنين، وظهرت بعض الأعضاء فيه فإنه يتأكد عندها أنه جنين حيّ في طريقه إلى أن يصبح إنساناً سوّياً. وبذلك يكون الاعتداء عليه اعتداء على حياة إنسانية معصومة الدّم، ويكون وأداً لها، وقد حرّم الله ذلك. قال تعالى: { وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ ؛ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ }.

وبذلك يحرم على الأم وعلى الأب وعلى الطبيب إسقاط الجنين بعد مرور أربعين يوماً من ابتداء الحمل، ومن يقوم به يكون مرتكباً جناية وإثماً، وتلزمه دية الجنين المسقط، وهي غرّة عبد أو أَمَة كما في الحديث الذي خرّجه البخاري ومسلم.

ولا يباح إسقاط الجنين سواء كان في دور التخلّق أو بعد نفخ الروح فيه إلا إذا قرر الأطباء العدول أن بقاء الجنين في بطن أمة سيؤدي إلى موت الأم، وموت الجنين معها. ففي هذه الحالة يجوز إسقاط الجنين لحفظ حياة الأم.