المرأة في دولة الخلافة على منهاج النبوة ومجتمعهاقد يبدو لبعضهم أن يسأل: كيف يتأتى للمرأة أن تقوم بأعمالها التي أباحها لها الشرع؟ مثل كونها موظفة في الدولة، وقاضياً لفصل الخصومات، وعضواً في مجلس الأمّة تناقش الحكام وتحاسبهم، مع هذه القيود التي وضعها عليها من عدم الخلوة، وعدم التبرج، ومن عيشها في حياة خاصة مع النساء والمحارم. وقد يبدو لبعضهم الآخر أن يسأل كيف يُصان الخلق؟ ويُحافَظ على الفضيلة؟ إذا أُبيح للمرأة أن تغشى الأسواق، وأن تناقش الرجال، وتقوم بالأعمال في الحياة العامة وفي المجتمع.

 وهذان السؤالان وأمثالهما من الأسئلة التشكيكية، كثيراً ما تبدو لأولئك وهؤلاء، حين تعرض عليهم أحكام الشرع في النظام الاجتماعي، لأنهم يرون واقع الحياة التي يعيشونها تحت حكم النظام الرأسمالي، وفي ظل راية الكفر فيصعب عليهم تصور تطبيق الإسلام.

والجواب عن هذه الأسئلة هو:

أن النظام الاجتماعي في الإسلام أحكام شرعية متعددة، آخذ بعضها برقاب بعض، ولا يعني طلب التقيد في حكم منها ترك التقيد في غيره، بل لا بد من تقيد المسلم والمسلمة في أحكام الشرع جميعها، حتى لا يحصل التناقض في الشخص الواحد، فيبدو التناقض في الأحكام. فالإسلام لا يعني في إباحة الأعمال للمرأة أن تذهب إلى دائرة الدولة تعمل فيها موظفة ولو ممرضة في مستشفى، بعد أن تكون قد أخذت زينتها، وأعدَّت نفسها كأنها ستزَف وهي عروس، وتذهب تتبدَّى للرجال بهذه الزينة المغرية، تهتف بهم أن تهفو شهواتهم نحوها. ولا يعني أن تذهب إلى المتجر في مثل هذه الزينة، تباشر البيع في حال من التطرّي والإغراء، وبأسلوب من الحديث يغري المشتري أن يتمتع بمساقطتها الحديث أثناء هذه المساومة، في سبيل أن تغلي عليه ثمن السلعة، أو تغريه بالشراء، ولا يعني الإسلام أن تشتغل كاتبة عند محام، أو سكرتيرة لصاحب أعمال، وتترك تختلي به كلما احتاج العمل إلى الخلوة، وتلبس له من الثياب ما يكشف شعرها وصدرها، وظهرها، وذراعيها، وساقيها، وتبدي له ما يشتهي من جسمها العاري.

كلا لا يعني الإسلام شيئاً من ذلك، ولا أمثاله مما يحصل في هذه الجماعة التي تعيش في مجتمع غير إسلامي، تسيطر عليه طريقة الغرب في الحياة. وإنما يعني الإسلام أن يطبق المسلم أحكام الإسلام كلها على نفسه. فحين أباح الإسلام للمرأة أن تباشر البيع والشراء في السوق منعها من أن تخرج إليه متبرجة، وأمرها أن تأخذ بالحكمين معاً. فالاعتقاد بالإسلام يحتم على المسلم تطبيق جميع أحكامه على نفسه. فقد شرع الإسلام أحكاما تشتمل على القيام بأعمال إيجابية، وأعمال سلبية، تحفظ المسلم رجلاً كان أو امرأة من الخروج عن جادة الفضيلة، وتكون وقاية له من الانزلاق إلى النظرة الجنسية، حين يكون في الجماعة.

وهذه الأحكام كثيرة، فمن الأحكام التي تشتمل على القيام بأعمال إيجابية ( أي أمر الشرع القيام بها ) ما يلي:المرأة في دولة الخلافة ومجتمعها {ن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات اعد الله لهم مغفرة واجرا عظيما }

1 - أنه قد أمر كلاً من الرجل والمرأة أن يغضوا من أبصارهم، وأن يحفظوا فروجهم، فقال تعالى: { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ؛ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} وغضّ البصر من كل من الرجل والمرأة هو الحصانة الحقيقية لكل منهما. تلك الحصانة الذاتية التي تحول بينه وبين الوقوع في المحرمات، لأن البصر هو الوسيلة الفعالة لذلك. ومتى غضّ البصر فقد منع المنكر.

2 - أمر الرجل والمرأة بتقوى الله، قال تعالى: { يا ايها الذين امنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا} وقال: { واتقين الله ان الله كان على كل شيء شهيدا }. وقال: { والعاقبة للتقوى}، ومتى اتصف المسلم بتقوى الله، فخاف عذابه، أو طمع في جنته ونوال رضوانه، فإن هذه التقوى تصرفه عن المنكر، وتصده عن معصية الله. وهذا هو الرادع الذاتي الذي ما بعده رادع. وإذا اتصف المسلم بتقوى الله فقد اتصف بأعلى صفات الكمال.

3 - أمر الرجل والمرأة أن يبتعدا عن مواطن الشبهات، وأن يحتاطا من ذلك حتى لا يقعا في معصية الله، وأن لا يغشيا أي مكان، ولا يأتيا أي عمل، ولا يتلبسا بأية حالة، فيها شبهة حتى لا يقعا في الحرام. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه» أخرجه مسلم من طريق النعمان بن بشير. والشبهة هنا تقع على ثلاثة أضرب.

  • أحدها: أن يشتبه في الشيء هل هو حرام أو مباح، أو في الفعل هل هو فرض أو حرام أو مكروه أو مندوب أو مباح. ووجود هذه الشبهة في وصف الشيء، أو في حكم الفعل، لا يجيز له أن يقدم عليه حتى يتبين حكم الشرع فيها، فيقدم مطمئناً إلى ما غلب على ظنه أنه حكم الشرع فيه، سواء أكان ذلك بعد اجتهاد له، أم بعد معرفته حكم الشرع فيها، إما من مجتهد، أو من عالم بالحكم، ولو كان مقلداً أو عامياً، ما دام واثقاً بتقواه وعلمه في الحكم لا علمه مطلقاً.
  • والثاني: أن يشتبه عليه أن يقع بالحرام من فعله المباح لمجاورته للحرام، ولكونه مظنة أن يؤدي إليه، كوضعه مالاً أمانة في مصرف يتعامل بالربا، أو بيعه عنباً لتاجر يملك معامل خمر، أو تدريس فتاة درساً رتيباً أسبوعياً أو يومياً، أو ما شاكل ذلك. فإن مثل هذه الأعمال مباحة وتجوز له أن يفعلها ولكن الأولى أن لا يفعلها تنزهاً من قبيل الورع.
  • والثالث: هو اشتباه الناس بعمل مباح أنه عمل ممنوع، فيبتعد المرء عن العمل المباح خشية أن يظن به الناس الظنون، وذلك كمن يمر من مكان مشبوه بالفساد، فيظن الناس به أنه فاسد، فخشية أن يقول الناس عنه ذلك يبتعد عن المباح. وكمن يتشدد في أن تستر زوجته أو محارمه وجوههن، وهو يرى أن الوجه ليس بعورة، ولكنه يتشدد خشية أن يقول الناس إن زوجة فلان أو أخته سافرة، وهذا المعنى فيه ناحيتان:
  1. أن يكون الشيء الذي يشتبه الناس به أنه حرام أو مكروه هو بالفعل حراماً أو مكروهاً شرعاً. ومن قيام الشخص بالعمل المباح يفهم الناس أنه قام بالعمل الممنوع. ففي هذه الحال يتقي الشخص العمل المباح خشية أن يظن الناس به، أو يفسره لهم. «عن علي بن الحسين أن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرته أنها جاءت رسول الله تزوره وهو معتكف في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة من العشاء ثم قامت تنقلب فقام معها النبي يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد الذي عند مسكن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرّ بهما رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم نفذا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي. قالا: سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما ما قال. قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مبلغ الدم. وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما» متفق عليه، ومعنى تنقلب ترجع. ومعنى يقلبها يرجعها. ويفهم من هذا الحديث أن الرسول دفع الشبهة التي قد توجد عند صاحبيه مع أنه عليه السلام فوق الشبهات.
  2. أن يكون الشيء الذي يشتبه الناس به أنه ممنوع هو في الحقيقة غير ممنوع، ولكنه خشية أن يقول الناس عنه إنه فعل الممنوع، يبتعد عنه لقول الناس لا لأنه ممنوع. ومثل هذا النوع من الشبهة لا يجوز الابتعاد عنه، بل يقوم به على الوجه الذي أمر به الشرع، ولا يحسب حساباً للناس. وقد عاتب الله الرسول على ذلك فقال تعالى: { وتخشى الناس والله احق ان تخشاه} مما يدل على أن المسلم إذا رأى أن الشرع لا يمنع الشيء فليفعله ولو قال الناس جميعاً إنه ممنوع.

فهذه الشبهات التي نهى الشرع عنها إذا اتقاها الرجل والمرأة صانتهما من المعصية وجعلتهما يتصفان بالفضيلة.

4 - حث على التبكير في الزواج حتى يبدأ حصر الصلة الجنسية للرجل والمرأة بالزواج في سن مبكرة. وحتى يحتاط في حصر هذه النظرة الجنسية بالزواج، منذ بدء فوران هذه الغريزة الجنسية. قال عليه الصلاة والسلام: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج» متفق عليه من طريق عبد الله بن مسعود. وقد سهل في أمر الزواج تسهيلاً كلياً بأن حض على تقليل المهور، قال عليه الصلاة والسلام: «أعظم النساء بركة أيسرهن صداقاً» أخرجه الحاكم من طريق عائشة رضي الله عنها.

5 - أمر أولئك الذين لم تمكنهم ظروف خاصة من الزواج أن يتصفوا بالعفة وضبط النفس قال تعالى: { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله} وأمرهم أن يصوموا علاجاً لغريزة الجنس حتى يستعان بعبادة الصوم على التغلب عليها، وإشغال النفس فيما هو أسمى وأرفع، وهو تقوية صلة الإنسان بالله بالطاعات، قال عليه الصلاة والسلام: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» متفق عليه. وليس الصوم لكبت الغريزة الجنسية، وإنما هو لإيجاد مفاهيم تتعلق بغريزة التدين يشغل بها الإنسان عن مفاهيم غريزة النوع، فلا تثور حتى لا تزعجه وتؤلمه. وليس المراد من الصوم إضعاف الجسم لأن الأكل في الليل وأخذ الكمية المغذية تغنى عن الأكل في النهار، فالإضعاف في الصوم غير محقق، ولكن المحقق هو وجود المفاهيم الروحية من صوم التطوع.

6 - أمر النساء بالحشمة وبارتداء اللباس الكامل في الحياة العامة، وجعل الحياة الخاصة مقصورة على النساء وعلى المحارم. ولا شك في أن ظهور المرأة محتشمة جِدِّية يحول بينها وبين النظرات المريبة، ممن لا يتقون الله. وقد وصف القرآن هذا اللباس وصفاً دقيقاً كاملاً شاملاً. والمرأة حين تلبس هذا اللباس الكامل وتضرب بخمارها على جيبها فتلوي غطاء رأسها على عنقها وصدرها، وحين تدني عليها جلبابها فترخي ملاءتها أو ملحفتها إلى أسفل كي تستر جميع جسمها حتى قدميها، تكون قد لبست اللباس الكامل، واحتاطت في لبسها، وظهرت حشمتها، وبهذا اللباس الكامل يمكنها أن تنزل إلى الحياة العامة لتباشر أعمالها فيها، وهي في منتهى الحشمة والوقار، مما يحول بينها وبين النظرات المريبة ممن لا يتقون الله.

هذه هي الأحكام الشرعية التي تشتمل على القيام بأعمال إيجابية، أما الأحكام الشرعية التي تشتمل على أعمال سلبية ( ما أمر الشرع اجتنابه ) منها ما يلي:

1 - منع كلاً من الرجل والمرأة من الخلوة بالآخر، والخلوة هي أن يجتمع الرجل والمرأة في مكان لا يمكِّن أحداً من الدخول عليهما إلا بإذنهما، كاجتماعهما في بيت، أو في خلاء بعيد عن الطريق والناس. قال في القاموس المحيط (واستخلى الملك فأخلاه وبه واستخلى به وخلا به وإليه ومعه خلواً وخلاء وخلوة سأله أن يجتمع به في خلوة ففعل) فالخلوة هي الاجتماع بين اثنين على انفراد، يأمنان فيه وجود غيرهما معهما. وهذه الخلوة هي الفساد بعينه ولذلك منع الإسلام منعاً باتاً كل خلوة بين رجل وامرأة غير محرمين، مهما كان هذان الشخصان، ومهما كانت هذه الخلوة. قال عليه الصلاة والسلام: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم منها، فإن ثالثهما الشيطان» أخرجه مسلم من طريق ابن عباس. وبمنع الخلوة اتخذ الشرع الوقاية بين الرجل والمرأة. وواقع الخلوة أنها هي التي تجعل الرجل لا يعرف في المرأة غير الأنثى، وهي التي تجعل المرأة لا تعرف في الرجل غير الذكر، وبمنع هذه الخلوة الفردية تحسم أسباب الفساد، لأن الخلوة من الوسائل المباشرة للفساد.

2 - منع المرأة من التبرج حين نهى عنه، قال تعالى: { والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح ان يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة} فنهى القواعد من النساء عن التبرج حين شرط عليهن في وضع الثياب التي سمح بوضعها، أي بخلعها عنهن، أن يكون ذلك على غير تبرج، ومفهومه نهي عن التبرج. وإذا كانت القواعد قد نهيت عن التبرج فإن غيرهن من النساء من باب أولى. وقال تعالى: { ولا يضربن بارجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } فإن مثل هذا يعتبر تبرجاً. والتبرج هو إظهار الزينة والمحاسن للأجانب يقال تبرجت المرأة: أظهرت زينتها ومحاسنها للأجانب. وقد وردت عدة أحاديث في النهي عما يعتبر من التبرج. فعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية» أخرجه ابن حبان والحاكم، أي هي كالزانية في الإثم. وقال عليه الصلاة والسلام: «صنفان من الناس لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا» أخرجه مسلم من طريق أبي هريرة. فهذه الأدلة كلها صريحة في النهي عن التبرج. ولذلك كان التبرج حراماً. وعليه فكل زينة غير عادية تلفت نظر الرجال، وتظهر محاسن المرأة تكون من التبرج إذا ظهرت بها المرأة في الحياة العامة، أو ظهرت بها في الحياة الخاصة أمام الرجال الأجانب. كالتعطر ووضع الأصباغ على الوجه، ولبس الباروكة على الرأس دون خمار، ولبس البنطال دون جلباب عندما تخرج للحياة العامة.

وواقع التبرج أنه يدعو إلى إذكاء العواطف وإثارة غريزة النوع للاجتماع الجنسي عند الرجل والمرأة على السواء. وهو يدعو إلى تحرش الرجال بالنساء تحرشاً يجعل التقريب بينهما على أساس الذكورة والأنوثة، ويجعل الصلة بينهما صلة جنسية، ويفسد التعاون بينهما إفساداً يجعله تعاوناً على هدمهم كيان الجماعة، لا على بنائها، ويحول هذا التبرج بين التقريب الحقيقي الذي أساسه الطهارة والتقوى. وهذا التبرج يملأ فراغ الحياة بإشباب العواطف، وإثارة غريزة النوع، وما يكون للحياة إلا أن تملأ بالتبعات الجسام، والأمور العظام، والهموم الكبار، لا أن تصرف إلى إشباع جوعات الجسد، بما يثيره التبرج من هذه الجوعات، ويحول بها بين المسلم رجلاً كان أو امرأة وبين أداء رسالته في الحياة، وهي حمل الدعوة الإسلامية، والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله. ولهذا كان لا بد من تقدير خطر التبرج على الجماعة الإسلامية، وتقدير ما في التبرج الذي تتبدى فيه الأنثى للذكر تهيجه وتهتف به، من خطر على الجماعة وعلى صلاتها. هذا هو التبرج الذي حرمه الإسلام، وهذا هو واقعه، وما فيه من خطر على الجماعة الإسلامية. أما إظهار المحاسن والزينة في البيت وفي الحياة الخاصة فلا يعتبر تبرجاً ولا ينطبق عليه لفظ التبرج.

3 - منع الإسلام كلاً من الرجل والمرأة من مباشرة أي عمل فيه خطر على الأخلاق، أو فساد للجماعة. فتمنع المرأة من الاشتغال في أي عمل يقصد منه استغلال أنوثتها. فعن رافع بن رفاعة قال: «نهانا صلى الله عليه وآله وسلم عن كسب الأَمَة إلا ما عملت بيديها. وقال: هكذا بأصابعه نحو الخبز والغزل والنَّفش» أخرجه أحمد. فتمنع المرأة من الاشتغال في المتاجر لجلب الزبائن، والاشتغال بالسفارات والقنصليات وأمثاله بقصد الاستعانة بأنوثتها على الوصول إلى أهداف سياسية، وتمنع من أن تشتغل مضيفة في طائرة، وما شاكل ذلك من الأعمال التي تعمل فيها المرأة بقصد استخدام أنوثتها.

4 - نهى الإسلام عن قذف المحصنات، أي عن رميهن بالزنا، قال تعالى: { والذين يرمون المحصنات ثم لم ياتوا باربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابدا واولئك هم الفاسقون }. وقال: { ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والاخرة ولهم عذاب عظيم }. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» متفق عليه من طريق أبي هريرة. والمراد من المحصنات هنا العفائف فكل عفيفة يحرم قذفها. وفي هذا النهي عن رمي المحصنات يُسكِت الشرع الألسن التي تعودت أن تتحرك بالسوء، وأن تلغ في أعراض الناس، حتى لا تشيع قالة السوء في الجماعة الإسلامية، ولا يشيع الاتهام بالباطل. وفي هذا صيانة للجماعة الإسلامية.

فهذه الأحكام الشرعية التي تشتمل على القيام بأعمال سلبية تجعل الجماعة الإسلامية مهما حصل بينها من تعاون سائرة في هذا التعاون في حدود الطهارة والتقوى.

وبهذا كله يمكن أن يتصور الإنسان الجماعة الإسلامية ما هي، ويمكن أن يدرك المرأة المسلمة ما هي، ويمكنه أن يرى أن قيام المرأة في الحياة العامة بالأعمال التي أباحها الشرع لا ينتج عنه أي فساد، ولا يؤدي إلى أي ضرر، بل هو ضروري للحياة العامة ولرقي الجماعة. ولهذا كان لا بد للمسلمين من أن يتقيدوا بأحكام الشرع، سواء أكانوا في دار إسلام، أم في دار كفر، في بلاد إسلامية، أو في بلاد غير إسلامية، بين جماعة المسلمين أو غيرهم، وأن يقدموا على الأعمال التي أباح الشرع للمرأة أن تقوم بها، ولا يخشون من ذلك بأساً، فإن في العمل بأحكام الشرع صيانة للمرأة، وترقية للجماعة، وإطاعة لأوامر الله ونواهيه. فالشرع أعلم بما يصلح الإنسان فرداً أو جماعة في الحياة الخاصة والعامة.

هذه خلاصة النظام الذي عالج به الإسلام الاجتماع الذي تنشأ عنه مشاكل، وهو اجتماع الرجال بالنساء. ومن هذا النظام يتبين أن الأحكام الشرعية التي جاء بها كفيلة بمنع الفساد، الذي قد ينشأ من هذا الاجتماع، وفي جلب الصلاح الذي تتوفر فيه الطهارة والتقوى والجد والعمل. وهو يضمن حياة خاصة يسكن إليها الإنسان، وتهدأ نفسه ويرتاح من العناء، ويضمن حياة عامة تكون جدية منتجة، موفرة للجماعة ما تحتاجه في حياتها من سعادة ورفاهية. وهذه الأحكام جزء من النظام الاجتماعي، لأنها تنظم الاجتماع بين الرجل والمرأة. أما ما ينشأ عن هذا الاجتماع من علاقات، وما يتفرع عنه من مشاكل، فإنه جزء آخر من النظام الاجتماعي، وهو الزواج، والطلاق، والبنوة، والنفقة، وما شاكلها. وانه وإن كانت تلك الأحكام - أحكام الزواج والطلاق وما شاكلها - هي من أنظمة المجتمع، لأنها تنظم علاقة الفرد بالفرد، إلا أنها من حيث أصلها قد نشأت عن الاجتماع الذي يحصل بين المرأة والرجل، ولذلك تبحث من حيث أصولها ونشأتها في النظام الاجتماعي. أما من حيث تفصيلاتها وتفرعاتها فإنها جزء من أنظمة المجتمع، وتبحث في باب المعاملات.

 

إن وجدت خيرا فانشره، فالدال على الخير كفاعله، دولة الخلافة، - نصر نت - nusr.net