طلبت الاحكام الشرعية غض البصر عن العورات لكل من الرجال والنساء ، والعورات هي عورة الرجل على الرجل وعورة المرأة على المرأة وعورة الرجل على المراة وعورة المرأة على الرجل.

وأما جواز النظر إلى ما ليس بعورة فإن نظر عائشة إلى الأحباش وهم يلعبون يدل على أنها كانت تنظر منهم إلى جميع ما يبدو منهم ما عدا العورة، فلم يتقيد النظر بل كان مطلقاً، ولأن عمرو بن شعيب روى عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله : «إذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة فإنّه عورة» أخرجه أبو داود،ومفهومه إباحة النظر إلى ما عداه، والإباحة مطلقة تشمل الرجل والمرأة. وأما ما روي عن جرير بن عبد الله أنه قال: «سألت رسول الله عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري» أخرجه مسلم. وما روي عن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله : «لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليس لك الآخرة» أخرجه أحمد من طريق بريدة. فإنه في شأن نظر الرجل للمرأة وليس في شأن نظر المرأة للرجل. والمراد من الحديث الأول النظر إلى غير الوجه والكفين بدليل إباحة النظر إليهما. ومن الحديث الثاني النهي عن التكرار الذي يسبب الشهوة وليس النهي عن مجرد النظر العادي غير المقصود.

وأما قوله تعالى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } فإن المراد منه غض البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحل، وليس غض البصر مطلقاً، بدليل أن الشارع قد بيَّن أن المحارم لا بأس بالنظر إلى أعضائهن التي تكون محل الزينة مثل الشعر والرقبة ومكان العقد ومكان الدملج ومكان الخلخال والقدمين، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها. على أن غض البصر هو خفضه قال في القاموس: (غض طرفه غضاضاً بالكسر وغضاً وغضاضاً وغضاضة بفتحهن خفضه) .

فيتبين من هذا جواز أن ينظر كل من الرجل والمرأة من الآخر ما ليس بعورة عن عدم قصد اللذة والاشتهاء. وعورة الرجل ما بين سرته وركبته وعورة المرأة جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها. فرقبتها عورة، وشعرها - ولو شعرة واحدة - عورة، وجانب رأسها من أية جهة كانت عورة، فكل ما عدا وجهها وكفيها عورة يجب ستره، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وما ظهر منها هو الوجه والكفان، لأن هذين هما اللذان كانا يظهران من النساء المسلمات أمام النبي ويسكت عن ذلك، ولأنهما هما اللذان يظهران في العبادات وذلك في الحج والصلاة، ولأنهما هما اللذان كانا يظهران عادة في عصر الرسول أي عصر نزول الآية. والدليل كذلك على أن عورة المرأة هو جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها قوله : «المرأة عورة» أخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق ابن مسعود، وقال : «إن الجارية إذا حاضت لم يصلح أن يرى منها إلا وجهها ويداها إلى المفصل» أخرجه أبو داود. فهذه الأدلة صريحة بأن جميع بدن المرأة عورة ما عدا وجهها وكفيها وأنه يجب على المرأة أن تستر عورتها أي أن تستر جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها.

أما بماذا تستره فإن الشرع لم يعين لباساً معيناً لستر العورة بل أطلق ذلك دون تعيين واكتفى بالنص على عدم ظهور العورة، {وَلَا يُبْدِينَ} «لم يصلح أن يُرى منها» فأي لباس يستر جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها يعتبر ساتراً مهما كان شكله، فالثوب الطويل ساتر، والبنطلون ساتر، والتنورة ساترة، والجوارب ساترة، فشكل اللباس لم يعينه الشارع، ونوع اللباس لم يعينه الشارع، فكل لباس يستر العورة أي لا تظهر منه العورة يعتبر ساتراً للعورة شرعاً، بغض النظر عن شكله ونوعه وعدد قطعه.

إلا أن الشارع اشترط في اللباس أن يستر البشرة، فقد أوجب الستر بما يستر لون البشرة، أي يستر الجلد، وما هو عليه من لون من بياض أو حمرة أو سمرة أو سواد أو غير ذلك، أي يجب أن يكون الساتر ساتراً للجلد ساتراً للونه على وجه لا يعلم بياضه من حمرته من سمرته، فإن لم يكن كذلك فلا يعتبر ساتراً للعورة فإن كان الثوب خفيفاً يظهر لون الجلد من ورائه فيعلم بياضه من حمرته من سمرته فإنه لا يصلح أن يكون ساتراً للعورة وتعتبر العورة به ظاهرة غير مستورة، لأن الستر لا يتم شرعاً إلا ستر الجلد بستر لونه. والدليل على أن الشارع أوجب ستر البشرة بستر الجلد بحيث لا يعلم لونه قوله : «لم يصلح أن يُرى منها». فهذا الحديث دليل واضح بأن الشارع اشترط فيما يستر العورة أن لا تُرى العورة من ورائه أي أن يكون ساتراً للجلد لا يشفّ ما وراءه، فيجب على المرأة أن تجعل ما يستر العورة ثوباً غير رقيق أي لا يحكي ما وراءه ولا يشفّ ما تحته.

هذا هو موضوع ستر العورة، وهذا الموضوع لا يصح أن يخلط بلباس المرأة في الحياة العامة، ولا بالتبرج ببعض الألبسة، فإذا كان هناك لباس يستر العورة فإن ذلك لا يعني أنه يجوز للمرأة أن تلبسه وهي سائرة في الطريق العام، لأن للطريق العام لباساً معيناً عينه الشرع، ولذلك لا يصح أن يخلط موضوع ستر العورة بموضوع لبس المرأة في الحياة العامة. وكذلك لا يصح أن يخلط موضوع ستر العورة بموضوع التبرج،