طباعة
المجموعة: فقه النظام الاجتماعي

إذا ثارت الغريزة تطلبت إشباعاً، وإذا لم تثر لا تتطلب الإشباع. وإذا تطلبت الغريزة الإشباع دفعت الإنسان لتحقيقه لها، وإذا لم يحققه ينزعج ما دامت ثائرة. فإذا هدأت ذهب الانزعاج. ولا يترتب على عدم الإشباع الموت، ولا أي أذى جسماني، أو نفسي، أو عقلي. وإنما يقتصر الأذى على الألم والانزعاج، ومن هنا كان إشباع الغريزة ليس إشباعاً حتمياً كالحاجة العضوية وإنما هو إشباع لجلب الطمأنينة والارتياح.

 والذي يثير الغريزة أمران: أحدهما الواقع المادي، والثاني الفكر ومنه تداعي المعاني. وإذا لم يوجد واحد من هذين العاملين لا تثور الغريزة. فهي لا تثور من دافع داخلي كالحاجة العضوية، بل من دافع خارجي، هو الواقع المادي، والفكر. وهذا كله ينطبق على جميع الغرائز. ينطبق على غريزة البقاء، وغريزة التدين، وغريزة النوع، سواء بسواء، دون أي تمييز بينها.

ولما كانت غريزة النوع كباقي الغرائز، إذا ثارت تتطلب إشباعاً، ولا تثور إلا بالواقع المادي، أو الفكر. لذلك كان جعل غريزة النوع تتطلب إشباعاً أمراً يمكن للإنسان أن يتصرف في توجيه هذا الإشباع، بل يمكن أن يتصرف في إيجاده، أو الحيلولة بينه وبين أن يتحرك إلى حيث يتجه نحو بقاء النوع. ولذلك كانت رؤية النساء، أو أي واقع يتصل بغريزة النوع يثير الغريزة، ويجعلها تتطلب الإشباع. وكانت قراءة القصص الجنسية وسماع الأفكار الجنسية يثير غريزة النوع. وكان الابتعاد عن النساء، وعن كل ما يتصل بغريزة النوع، والابتعاد عن الأفكار الجنسية، يحول بين غريزة النوع وبين إثارتها. لأنه لا يمكن أن تثور غريزة النوع إلا إذا أُثيرت، بواقع مادي أو بفكر جنسي.

فإذا كانت نظرة الجماعة إلى الصلات بين الرجل والمرأة مسلطة على صلة الذكورة والأنوثة، أي على الصلة الجنسية كما هي الحال في المجتمع الغربي، كان إيجاد الواقع المادي، والفكر الجنسي المثيرين عند الرجل والمرأة أمراً ضرورياً لإثارة الغريزة حتى تتطلب إشباعاً، وحتى يجري إشباعها لتتحقق هذه الصلة، وتوجد الراحة بواسطة الإشباع. وإذا كانت نظرة الجماعة إلى الصلات بين الرجل والمرأة مسلطة على الغرض الذي من أجله وجدت هذه الغريزة، وهو بقاء النوع، كان إبعاد الواقع المادي والفكر الجنسي عن الرجل والمرأة أمراً ضرورياً في الحياة العامة، حتى لا تثور الغريزة، لئلا تتطلب إشباعاً لا يتاح لها، فينالها الألم والانزعاج. وكان حصر هذا الواقع المادي المثير في حالة الزوجية أمراً ضرورياً لبقاء النوع، ولجلب الطمأنينة والراحة، في تحقيق الإشباع عند تطلبه. ومن هنا يتبين إلى أي حد تؤثر نظرة الجماعة إلى الصلات بين الرجل والمرأة في توجيه الحياة العامة بين الجماعة وفي المجتمع. وقد كانت نظرة الغربيين الذين يعتنقون المبدأ الرأسمالي والشرقيين الذين يعتنقون الشيوعية إلى الصلات بين الرجل والمرأة نظرة جنسية لا نظرة بقاء النوع. ولذلك دأبوا على تعمد إيجاد الواقع المادي والفكر الجنسي أمام الرجل والمرأة لإثارة غريزة النوع من أجل إشباعها. ورأوا أن عدم إشباعها يسبب الكبت الذي يؤدي إلى أضرار جسمية، ونفسية، وعقلية على حد زعمهم. ومن هنا نجد الجماعة الغربية والشيوعية والمجتمع الغربي والشيوعي تكثر فيهما الأفكار الجنسية في القصص، والشعر، والمؤلفات، وغير ذلك. ويكثر فيه الاختلاط بين الرجل والمرأة لغير حاجة في البيوت، والمتنـزهات، والطرقات، وفي السباحة، وما شاكل ذلك. لأنهم يعتبرون هذا أمراً ضرورياً ويتعمدون إيجاده، وهو جزء من تنظيم حياتهم، وجزء من طراز عيشهم.

أما نظرة المسلمين الذين يعتنقون الإسلام مؤمنين بعقيدته وأحكامه، وبعبارة أخرى نظرة الإسلام إلى الصلات بين الرجل والمرأة، فإنها نظرة لبقاء النوع لا نظرة للناحية الجنسية، وتعتبر الناحية الجنسية أمراً حتمياً في الإشباع، ولكن ليست هي التي توجه الإشباع. ومن أجل ذلك يعتبر الإسلام وجود الأفكار الجنسية بين الجماعة أمراً يؤدي إلى الضرر، ويعتبر وجود الواقع المادي الذي يثير النوع أمراً يؤدي إلى الفساد. ولذلك جاء ينهى عن الخلوة بين الرجل والمرأة، وجاء ينهى عن التبرج والزينة للأجانب، وينهى كلاً من الرجل والمرأة عن النظر للآخر نظرة جنسية، وجاء يحدد التعاون بين الرجل والمرأة في الحياة العامة، وجاء يحصر الصلة الجنسية بين الرجل والمرأة في حالتين اثنتين ليس غير، هما: الزواج، وملك اليمين.

فالإسلام يعمل على الحيلولة بين غريزة النوع وبين ما يثيرها في الحياة العامة، وعلى حصر صلة الجنس في أمور معينة. بينما الرأسمالية والشيوعية تعملان على إيجاد ما يثير غريزة النوع من أجل تحقيق إشباعها وتطلقها في كل شيء. وفي حين أن نظرة الإسلام للصلات بين الرجل والمرأة إنما هي لبقاء النوع، فإن نظرة الرأسمالية والشيوعية للصلات بين الرجل والمرأة نظرة ذكورة وأنوثة، أي نظرة جنسية. وشتان بين النظرتين وفرق شاسع بين ما يعمله كل من الإسلام وهذين المبدأين. وبهذا يظهر ما في الإسلام من نظرة الطهر والفضيلة والعفاف ونظرة هناء الإنسان وبقاء نوعه.

وأما ما يزعمه الغربيون والشيوعيون من أن كبت غريزة النوع في الرجل والمرأة يسبب للإنسان أمراضاً جسمية ونفسية وعقلية فإن ذلك غير صحيح وهو وَهْمٌ مخالف للحقيقة. وذلك لأن هنالك فرقاً بين الغريزة والحاجة العضوية من حيث حتمية الإشباع، فإن الحاجة العضوية كالأكل والشرب وقضاء الحاجة يتحتم إشباعها، وإذا لم تشبع ينتج عنها أضرار ربما تصل إلى الموت. وأما الغريزة كالبقاء والتدين والنوع فإنه لا يتحتم إشباعها. وإذا لم تشبع لا ينتج عن عدم إشباعها أي ضرر جسمي أو عقلي أو نفسي وإنما يحصل من ذلك انزعاج وألم ليس غير، بدليل أنه قد يمضي الشخص عمره كله دون أن يشبع بعض الغرائز، ومع ذلك لا يحصل له شيء من الضرر، وبدليل أن ما يزعمونه من أمراض جسمية وعقلية ونفسية لا يحصل للإنسان بوصفه إنساناً إذا لم يشبع غريزة النوع وإنما يحصل لبعض الأفراد، وهذا يدل على أنه لا يحصل طبيعياً حسب الفطرة من عدم الإشباع، وإنما يحصل لأعراض أخرى غير الكبت. إذ لو حصل من كبت الغريزة لحصل للإنسان في كل حالة يقع فيها الكبت حصولاً طبيعياً حسب الفطرة وهو لم يقع مطلقاً، وهم يعترفون بأنه لم يقع للإنسان فطرياً من جراء الكبت فيكون الذي قد حصل لهؤلاء الأفراد آتياً من عارض آخر غير الكبت.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الحاجة العضوية تتطلب الإشباع طبيعياً من الداخل دون حاجة لمؤثر خارجي، وإن كان المؤثر الخارجي يثيرها في حالة وجود الجوعة، بخلاف الغريزة فإنها لا تتطلب الإشباع طبيعياً من الداخل من غير مؤثر خارجي، بل لا تثور داخلياً إلا بمؤثر خارجي من واقع مادي مثير أو فكر جنسي مثير، ومنه تداعي المعاني المثير. فإذا لم يوجد هذا المؤثر الخارجي لا تحصل الإثارة. وهذا شأن جميع الغرائز لا فرق بين غريزة البقاء، أو غريزة التدين، أو غريزة النوع بجميع مظاهرها كلها. فإنه إذا وجد أمام الشخص ما يثير أي غريزة يتهيج، وتتطلب الغريزة الإشباع، فإذا أبعد عنه ما يحرك الغريزة، أو أشغل بما يطغى عليها بما هو أهم منها ذهب تطلب الإشباع، وهدأت نفسه، بخلاف الحاجة العضوية، فإنه لا يذهب تطلب إشباعها متى ثارت مطلقاً، بل يستمر حتى تشبع. وبهذا يظهر بوضوح أن عدم إشباع غريزة النوع لا يحصل منه أي مرض جسمي أو عقلي أو نفسي مطلقاً لأنها غريزة وليست حاجة عضوية. وكل ما يوجد هو أن الشخص إذا وجد أمامه ما يثير غريزة النوع من واقع مادي، أو فكر جنسي مثيرين فإنه قد يتهيج فيتطلب الإشباع، فإذا لم يشبع يصيبه من هذا التهيج انزعاج ليس أكثر، ومن تكرار هذا الانزعاج يتألم. فإذا أبعد عنه ما يحرك غريزة النوع، أو أشغل بما يطغى على هذه الغريزة بما هو أهم منها ذهب الانزعاج. وعليه فإن كبت غريزة النوع إذا ثارت يحصل منه ألم وانزعاج ليس أكثر، وإذا لم تثر بما يثيرها لا يحصل منها شيء حتى ولا ألم وانزعاج، فيكون علاجها هو عدم إثارتها بالحيلولة بينها وبين ما يثيرها إذا لم يتأتَ لها الإشباع.

وبهذا يتبين خطأ وجهة النظر الغربية والشيوعية التي جعلت نظرة الجماعة إلى الصلات بين الرجل والمرأة مسلطة على صلة الذكورة والأنوثة، وبالتالي خطأ علاج هذه النظرة بإثارة الغريزة في الرجل والمرأة بإيجاد ما يثيرها من الوسائل كالاختلاط والرقص والألعاب والقصص وما شابه ذلك. كما يتبين صدق وجهة النظر الإسلامية التي جعلت نظرة الجماعة إلى الصلات بين الرجل والمرأة مسلطة على الغرض الذي من أجله وجدت هذه الغريزة وهو بقاء النوع، ويظهر بالتالي صحة علاج هذه النظرة بإبعاد ما يثيرها من الواقع المادي والفكر الجنسي المثيرين، إذا لم يتأتَ لها الإشباع المشروع بالزواج وملك اليمين. فيكون الإسلام وحده هو الذي يعالج ما تحدثه غريزة النوع من الفساد في المجتمع والناس علاجاً ناجعاً، يجعل أثرها محدثاً الصلاح والسمو في المجتمع والناس.