قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} وقال: { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } وقال: { قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}. فالله خاطب الإنسان بالتكاليف، وجعل الإنسان موضع الخطاب والتكليف. وأنزل الشرائع للإنسان ويبعث الله الإنسان، ويحاسب الإنسان، ويدخل الجنة والنار الإنسان، فجعل الإنسان لا الرجل ولا المرأة محل التكاليف.

 وقد خلق الله الإنسان امرأة أو رجلاً في فطرة معينة تمتاز عن الحيوان، فالمرأة إنسان، والرجل إنسان، ولا يختلف أحدهما عن الآخر في الإنسانية، ولا يمتاز أحدهما عن الآخر في شيء من هذه الإنسانية. وقد هيأهما لخوض معترك الحياة بوصف الإنسانية. وجعلهما يعيشان حتماً في مجتمع واحد. وجعل بقاء النوع متوقفاً على اجتماعهما، وعلى وجودهما في كل مجتمع. فلا يجوز أن ينظر لأحدهما إلا كما ينظر للآخر، بأنه إنسان يتمتع بجميع خصائص الإنسان ومقومات حياته، وقد خلق الله في كل منهما طاقة حيوية، هي نفس الطاقة الحيوية التي خلقها في الآخر. فجعل في كل منهما الحاجات العضوية كالجوع، والعطش، وقضاء الحاجة. وجعل في كل منهما غريزة البقاء، وغريزة النوع، وغريزة التدين. وهي نفس الحاجات العضوية والغرائز الموجودة في الآخر. وجعل في كل منهما قوة التفكير وهي نفس قوة التفكير الموجودة في الآخر. فالعقل الموجود عند الرجل هو نفس العقل الموجود عند المرأة إذ خلقه الله عقلاً للإنسان، وليس عقلاً للرجل أو للمرأة.

إلا أن غريزة النوع وإن كان يمكن أن يشبعها الذكر من ذكر أو حيوان، أو غير ذلك. ويمكن أن تشبعها الأنثى من أنثى أو حيوان، أو غير ذلك. ولكنها لا يمكن أن تؤدي الغاية التي من أجلها خلقت في الإنسان إلا في حالة واحدة، وهي أن يشبعها الذكر من الأنثى، وأن تشبعها الأنثى من الذكر. ولذلك كانت صلة الرجل بالمرأة، وصلة المرأة بالرجل من الناحية الجنسية الغريزية صلة طبيعية لا غرابة فيها. بل هي الصلة الأصلية التي بها وحدها يتحقق الغرض الذي من أجله وجدت هذه الغريزة وهو بقاء النوع. فإذا وقعت بينهما هذه الصلة على شكل الاجتماع الجنسي كان ذلك بديهياً وطبيعياً ليس فيه شيء غريب. بل كان ذلك أمراً حتمياً لبقاء النوع الإنساني. إلا أن إطلاق هذه الغريزة مضر بالإنسان، وبحياته الاجتماعية. والغرض من وجودها إنما هو النسل لبقاء النوع. ولذلك كان لا بد من جعل نظرة الإنسان لهذه الغريزة منصبة على الغرض الذي من أجله وجدت في الإنسان، ألا وهو بقاء النوع، لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة. وأما اللذة والتمتع التي تحصل بالإشباع فهي أمر طبيعي وحتمي، سواء نظر إليها الإنسان، أم لم ينظر. ولذلك لا يصح أن يقال: يجب أن تبعد نظرة اللذة والتمتع عن غريزة النوع، لأن هذا لا يأتي من النظرة، بل هو طبيعي وحتمي، ولا يتأتى فيه الإبعاد، لأن هذا الإبعاد من المستحيلات، ولكن النظرة تأتي من مفهوم الإنسان عن هذا الإشباع، وعن الغاية من وجودها. ومن هنا كان لا بد من إيجاد مفهوم معين عند الإنسان عن غريزة النوع، وعن الغرض من وجودها في الإنسان، يكوّن عنده نظرة خاصة إلى ما خلقه الله في الإنسان من غريزة النوع، بحيث يحصرها في صلة الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل. ويكوّن عنده نظرة خاصة إلى ما بين الرجل والمرأة من صلات الذكورة والأنوثة، أو بعبارة أخرى الصلات الجنسية، بحيث تنصب على القصد الذي من أجله وجدت وهو بقاء النوع. وبهذه النظرة يتحقق إشباع الغريزة، ويتحقق الغرض الذي من أجله وجدت، وتتحقق الطمأنينة للجماعة التي تأخذ هذا المفهوم، وتوجد لديها هذه النظرة الخاصة. وكان لا بد أيضاً من تغيير نظرة الجماعة -أي جماعة- من بني الإنسان إلى ما بين الرجل والمرأة من صلات الذكورة والأنوثة أو بعبارة أخرى الصلات الجنسية، من نظرة مسلطة على اللذة والتمتع، إلى جعل هذه اللذة والتمتع أمراً طبيعياً وحتمياً للإشباع. وجعل النظرة منصبة على الغرض الذي من أجله كانت هذه الغريزة. وهذه النظرة تبقي غريزة النوع وتصرفها في وجهها الصحيح الذي خلقت له، ويفسح المجال للإنسان ليقوم بجميع الأعمال، ويتفرغ لجميع الأمور التي تسعده.

ولهذا كان لا بد للإنسان من مفهوم عن إشباع غريزة النوع، وعن الغاية من وجودها، وكان لا بد أن يكون للجماعة الإنسانية نظام يمحو من النفوس تسلط فكرة الاجتماع الجنسي واعتبارها وحدها المتغلبة على كل اعتبار، ويبقي صلات التعاون بين الرجل والمرأة. لأنه لا صلاح للجماعة إلا بتعاونهما، باعتبار أنهما أخوان متضامنان تضامن مودّة ورحمة. ولذلك لا بد من التأكيد على تغيير نظرة الجماعة إلى ما بين الرجل والمرأة من صلات تغييراً تاماً يزيل تسلط مفاهيم الاجتماع الجنسي، ويجعلها أمراً طبيعياً وحتمياً للإشباع، ويزيل حصر هذه الصلة باللذة والتمتع، ويجعلها نظرة تستهدف مصلحة الجماعة، لا نظرة الذكورة والأنوثة. ويسيطر عليها تقوى الله لا حب التمتع والشهوات. نظرة لا تنكر على الإنسان استمتاعه باللذة الجنسية، ولكنها تجعله استمتاعاً مشروعاً، محققاً بقاء النوع، متفقاً مع المثل الأعلى للمسلم، وهو رضوان الله تعالى.

وقد جاءت آيات القرآن منصبَّة على الناحية الزوجية، أي على الغرض الذي كانت من أجله غريزة النوع. فجاءت الآيات مبينة أن الخلق للغريزة من أصله إنما كان للزوجية أي لبقاء النوع، أي أن الغريزة إنما خلقها الله للزوجية. وقد بينت ذلك بأساليب مختلفة، ومعانٍ متعددة، لتجعل نظرة الجماعة إلى صلات المرأة بالرجل نظرة مسلطة على الزوجية، لا على الاجتماع الجنسي، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}  وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) } وقال: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} وقال: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} وقال: { وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) } وقال: { فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } وقال: { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) } وقال: { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)}. فالله سلط الخلق على الذكر والأنثى من ناحية الزوجية، وكرر ذلك حتى تظل النظرة إلى الصلات بين الذكر والأنثى منصبة على الزوجية أي على النسل لبقاء النوع.