فقه أنظمة دولة الخلافة على منهاج النبوة

تحديد مدة حكم الخليفة في دولة الخلافة بعدد محدد من السنوات من المسائل التي يطرحها البعض سواء لتأثر بنظام حكم المبدأ الرأسمالي ( الديمقراطية) أو بشبهة دليل شرعي على اعتبار أن الخلافة عقد مراضاة واختيار، وقد اشترطت الأمة على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه على أن من يحكمها لا بد أن يحكمها بكتاب الله تعالى وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وزادوا على ذلك (منهج الشيخين) فهل يمكن أن نفهم من هذه الزيادة أنه يجوز في عقد البيعة أن تشترط الأمة تحديد مدة للخليفة؟

قبل الجواب نذكر بما يلي:

أ- إن للمسلم أن يشترط في العقود ما شاء إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف الذي أخرجه البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، في قضية عتق بريرة... ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ».

وأخرج الترمذي في الحديث الصحيح عن كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ المُزَنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا».

ب- فإذن يجوز أن يشترط المسلم في العقود إلا أن يُحلَّ حراماً أو يحرم حلالاً، أي إلا أن يخالف شرع الله، فهو شرط باطل لا يصح ولا يجوز.

ج- إن تقليد المجتهد لمجتهد آخر جائز، وهذا ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وعليه فإن اشترط مسلم على مجتهد أن يقلد مجتهداً آخر في مسألةٍ ما وإلا فلا يبايعه، فهذا جائز لأن تقليد المجتهد لمجتهد آخر يجوز.

جاء في بحث واقع التقليد الفقرة الثانية ما يلي:

 (...والمجتهد إذا حصلت له أهلية الاجتهاد بتمامها في مسألة من المسائل، فإن اجتهد فيها وأدّاه اجتهاده إلى حكم فيها، فلا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين في خلاف ما أدّاه إليه اجتهاده، ولا يجوز له ترك ظنه أو ترك العمل بظنه في هذه المسألة إلا في أربع حالات:

إحداها - إذا ظهر له أن الدليل الذي استند إليه في اجتهاده ضعيف، وأن دليل مجتهد آخر غيره أقوى من دليله، ففي هذه الحالة يجب عليه ترك الحكم الذي أداه إليه اجتهاده في الحال وأخذ الحكم الأقوى دليلاً...

ثانيتها - إذا ظهر له أن مجتهداً غيره أقدر على الربط، أو أكثر اطلاعاً على الواقع، وأقوى فهماً للأدلة، أو أكثر اطلاعاً على الأدلة السمعية، أو غير ذلك، فرجّح في نفسه أن يكون هو أقرب إلى الصواب في فهم مسألة معينة، أو في فهم المسائل من حيث هي... فإنه يجوز له أن يترك الحكم الذي أداه إليه اجتهاده ويقلد ذلك المجتهد الذي يثق باجتهاده أكثر من ثقته باجتهاد نفسه.

ثالثتها - أن يتبنى الخليفة حكماً يخالف الحكم الذي أداه إليه اجتهـاده. ففي هـذه الحـال يجب عليه ترك العمل بما أداه إليه اجتهاده والعمل بالحكم الذي تبناه الإمام...

رابعتها - أن يكون هناك رأي يراد جمع كلمة المسلمين عليه لمصلحة المسلمين. فإنه في هذه الحالة يجوز للمجتهد ترك ما أدى إليه اجتهاده، وأخذ الحكم الذي يراد جمع كلمة المسلمين عليه، وذلك كما حصل مع عثمان عند بيعته... إلا أن هذا يجوز للمجتهد ولا يجب عليه. بدليل أن علياً لم يقبل أن يترك اجتهاده لاجتهاد أبي بكر وعمر، فلم ينكر عليه أحد، مما يدل على أن ذلك جائز وليس بواجب.

وهذا كله في المجتهد إذا كان اجتهد بالفعل، وأداه اجتهاده إلى حكم في المسألة. أما إذا لم يسبق للمجتهد أن اجتهد في المسألة، فإنه يجوز له أن يقلد غيره من المجتهدين... فقد صح عن عمر أنه قال لأبي بكر: "رأينا تبعٌ لرأيك" وصح عن عمر أنه كان إذا أعياه أن يجد في القرآن والسنة ما يقضي به إذا ورد عليه الخصوم نظر هل كان لأبي بكر قضاء، فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به. وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يأخذ بقول عمر رضي الله عنه. وكان ذلك على مرأى ومسمع من الصحابة في حوادث متعددة ولم ينكر عليهم منكر، فكان إجماعاً سكوتياً.) انتهى النقل

 د- إن نصوص البيعة للخليفة تناقض التقييد بالمدة، لأن البيعة للرسول صلى الله عليه وسلم والبيعة للخلفاء الراشدين كانت على الحكم بكتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا قيْدُها، فإن ترك الخليفة الحكم بكتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ولايته تنتهي وفق الأحكام الشرعية الواردة في ذلك التي فصَّلت كيفية عزل الخليفة وصلاحية المظالم... ووضع قيد آخر لا يجوز لأنه يخالف نص البيعة، الذي هو الحكم بكتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا ثابت بالسنة وإجماع الصحابة:

أما السنة، فقد أخرج البخاري عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ... فَقَالَ: دَعَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ، فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: «أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ» ، قَالَ: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» وأخرجه مسلم كذلك.

وأخرج مسلم أيضاً عَنْ يَحْيَى بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ الْحُصَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُهَا تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ - حَسِبْتُهَا قَالَتْ - أَسْوَدُ، يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا»

وواضح من كل ذلك استمرار البيعة والطاعة ما دام الحكم بكتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إلا عند الكفر البواح، أي المخالفة القطعية للشرع.

وأما إجماع الصحابة، فإن بيعة الخلفاء الراشدين فكانت على الحكم بكتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليست على مدة محددة، وكانت بيعتهم على ملأ من الصحابة رضوان الله عليهم، فكانت إجماعاً بعدم تحديد المدة، وإنما استمرار الخليفة متوقف على طاعته لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أي الحكم بما أنزل الله. أخرج معمر بن راشد في جامعه قال: خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ... أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ، قُومُوا إِلَى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ».

وواضح من هذه الأدلة أن المدة غير محددة، بل طاعة الخليفة لله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم هي المنصوص عليها، فما دام يحكم الخليفة بما أنزل الله فولايته مستمرة، فإذا خالف نصاً مقطوعاً به فتنتهي ولايته ولو كانت شهراً أو شهرين... وذلك وفق الأحكام الشرعية الواردة في عزل الخليفة وصلاحية قاضي المظالم...

هـ- أما ما حدث في انتخاب الخليفة بعد عمر رضي الله عنه، وأنهم اشترطوا على عبد الرحمن بن عوف الذي كان موكلاً بسؤال الناس عن الخليفة الذي يريدون، اشتَرَطُوا أنهم يبايعون الخليفة الذي إذا عرضت عليه مسألة كانت قد حدثت في عهد الخليفتين قبله وحكم فيها أبو بكر أو عمر فعليه أن يقلدهم في حكم تلك المسألة الذي حكم فيه، ولا يجتهد فيها، فرفض علي رضي الله عنه ذلك إلا أن يجتهد رأيه في كل مسألة، وقبل عثمان رضي الله عنه فبايعوه، فهذا الشرط جائز لهم أن يشترطوه، وجائز له أن يقبله فيقلد، أو لا يقبله فيجتهد، فتقليد المجتهد لمجتهد آخر جائز شرعاً كما بيّنا سابقاً عن تقليد المجتهد لمجتهد آخر في عصر الصحابة رضوان الله عليهم.

والخلاصة أن الشرط جائز في العقود إذا لم يخالف نصاً شرعياً، وإلا فلا يجوز ولا يصح، ولأن شرط تحديد المدة للخليفة مخالف لنص البيعة الثابت بالسنة وإجماع الصحابة الذي هو الحكم بكتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذن لا يجوز اشتراط تحديد المدة على الخليفة الذي يراد بيعته.