فقه أنظمة دولة الخلافة على منهاج النبوة

تعتبر العقود والمعاملات والأقضية التي أبرمت وانتهى تنفيذها قبل قيام الخلافة، تعتبر صحيحة بين أطرافها حتى انتهاء تنفيذها قبل الخلافة، ولا ينقضها قضاء الخلافة ولا يحركها من جديد، وكذلك لا تقبل الدعاوى حولها من جديد بعد قيام الخلافة.

يستثنى من ذلك حالتان:

  1. إذا كان للقضية التي أبرمت وانتهى تنفيذها أثر مستمر يخالف الإسلام.
  2. إذا كانت القضية تتعلق بمن آذى الإسلام والمسلمين.

أما عدم نقض العقود والمعاملات والقضايا التي أبرمت وانتهى تنفيذها قبل قيام دولة الخلافة، وعدم تحريكها من جديد في غير الحالتين المذكورتين؛ فذلك لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم ينقض معاملات الجاهلية وعقودها وأقضيتها عندما أصبحت دارهم دار إسلام. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد الفتح لم يعد إلى داره التي هاجر منها، حيث كان عقيل بن أبي طالب قد ورث - وفق قوانين قريش - دور عَصَبَتِه الذين أسلموا وهاجروا، وتصرف بها وباعها، ومن ضمنها دار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكان قيل للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حينها: «في أي دورك تنـزل؟» فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «وهل ترك عقيل من رباع» وفي رواية «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْـزِلٍ» فهو قد كان باع دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينقضها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. والحديث كما أخرجه البخاري من طريق أسامة بن زيد هو: «أَنَّهُ قَالَ زَمَنَ الْفَتْحِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْـزِلُ غَداً؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْـزِلٍ؟!» وكذلك فقد ورد أن أبا العاص بن الربيع، عندما أسلم وهاجر إلى المدينة - وكانت زوجته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أسلمت وهاجرت بعد بدر بينما هو بقي على شركه في مكة - أرجع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إليه زوجته زينب بنت الرسول دون أن يجدد عقد نكاحها عليه، إقراراً بالعقد الذي كان قد تم في الجاهلية. أخرج ابن ماجة من طريق ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رد ابنته - أي زينب - على أبي العاص ابن الربيع بعد سنتين بنكاحها الأول» وذلك بعد أن أسلم أبو العاص.

القضايا ذات الأثر المستمر

وأما تحريك القضايا ذات الأثر المستمر المخالف للإسلام، فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد وضع الربا المتبقي على الناس بعد أن أصبحوا في الدولة الإسلامية وجعل لهم رؤوس أموالهم، أي أنهم بعد دار الإسلام قد أصبح ما بقي عليهم من ربا موضوعاً. أخرج أبو داود من طريق سليمان بن عمرو عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع يقول: «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون».

 وكذلك فإن الذين كانوا متزوجين فوق أربع حسب قوانين الجاهلية، فإنهم بعد دار الإسلام ألزموا بالإمساك على أربع فقط. أخرج الترمذي من طريق عبد الله بن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه «فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يختار أربعاً منهن».

وعليه فإن العقود التي لها أثر مستمر مخالف للإسلام، فإن هذا الأثر يُزال عند قيام الخلافة، وهذه الإزالة على الوجوب.

فمثلاً لو أن امرأة مسلمة كانت متزوجة من نصراني قبل الإسلام، فإنه بعد الخلافة يفسخ هذا العقد وفق أحكام الشرع.

القضايا المتعلقة بمن آذوا الإسلام والمسلمين

وأما تحريك القضايا المتعلقة بمن آذوا الإسلام والمسلمين؛ فلأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عندما فتح مكة أهدر دم بضعة نفر كانوا يؤذون الإسلام والمسلمين في الجاهلية، فأهدر دمهم حتى وإن تعلقوا بأستار الكعبة، علماً بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الإسلام يجب ما قبله» رواه أحمد والطبراني عن عمرو بن العاص، أي أن من آذى الإسلام والمسلمين مستثني من هذا الحديث.

وحيث إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد عفا عن بعضهم فيما بعد كعفوه صلى الله عليه وآله وسلم عن عكرمة بن أبي جهل؛ لذلك يجوز للخليفة أن يحرك القضية على هؤلاء أو يعفو عنهم. وهذا ينطبق على من كان يعذب المسلمين لقولهم الحق أو يطعن في الإسلام، فإنه لا يطبق عليهم حديث «الإسلام يجب ما قبله»، بل إنهم مستثنون من هذا، وتحرك القضية عليهم وفق ما يراه الخليفة.

أما في غير هاتين الحالتين، فإن عقود ما قبل الخلافة ومعاملاتها وأقضيتها لا تُنقَض ولا تحرك، ما دام أنها قد أبرمت وانتهى تنفيذها قبل قيام الخلافة.

فمثلاً لو أن رجلاً حُكِم بالسجن سنتين في تهمة كسر أبواب مدرسة، وأكمل السنتين قبل قيام الخلافة وخرج من السجن، ثم بعد قيام الخلافة أراد أن يقيم دعوى على من سجنه بتلك التهمة لأنه يرى أنه لم يكن يستحق السجن، فإن هذه الدعوى لا تقبل؛ لأن القضية حدثت وحكم عليها وانتهى تنفيذها قبل قيام الخلافة، فيحتسب أمره لله.

وأما إذا كان رجل محكوماً عشر سنوات مضى منها سنتان ثم قامت الخلافة، فهنا للخليفة أن ينظر فيها، إما بإلغاء العقوبة من أصلها فيخرج من السجن بريئاً مما نسب إليه، وإما بالاكتفاء بما مضى، أي أن الحكم الصادر عنه يعتبر سنتين ويخرج من السجن، وإما أن يُدرس الحكم المتبقي ويراعى فيه الأحكام الشرعية ذات العلاقة بما يصلح الرعية، وبخاصة القضايا المتعلقة بحقوق الأشخاص، وبما يصلح ذات البين.

 

 القضاء في دستور دولة الخلافة على منهاج النبوة