طباعة
المجموعة: فقه الحكم ولإدارة

 خلق الله سبحانه وتعالى الانسان، وأوجب عليه إلتزام أوامره وإجتناب نواهيه، ولم يجعله ملاك يمشي على الارض، بل إنسان يعصي، ويخطئ، وقد يظلم غيره، وهذا أمر طبيعي يحدث في التجمعات البشرية وإثناء تعامل الانسان مع غيره لإشباع جوعاته الانسانية. وإذا حدثت مخالفات أوخصومات لابد من تدخل القضاء حتى لاتعم الفوضى والاضطرابات في المجتمع. والقضاة في الشريعة الاسلامية أنواع هي غير درجات القضاء السائدة نتيجة لهيمنة المبدأ الرأسمالي.

 فالقضاة ثلاثة أنواع:

  1. القاضي، وهو الذي يتولى الفصل في الخصومات بين الناس في المعاملات والعقوبات.
  2. المُحتَسِب، وهو الذي يتولى الفصل في المخالفات التي تَضُرّ حق الجماعة،
  3. قاضي المظالم، وهو الذي يتولى رفع النزاع الواقع بين الناس والدولة.

هذا بيان لأنواع القضاء. أما دليل كل واحد منها فما يلي:

  1. فدليل القضاء الذي هو فصل بين الناس في الخصومات ففعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتعيينه معاذ بن جبل لناحية من اليمن.
  2. وأما دليل القضاء الذي هو الفصل في المخالفات التي تَضرُّ حق الجماعة والذي يقال له الحسبة فهو ثابت بفعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقوله، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «ليس مِنّا مَن غش» طرف من حديث رواه أحمد من طريق أبي هريرة، وهكذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يتعرض للغاشِّ فيزجره. وكذلك كان يأمر التجار في الأسواق بالصدق في التجارة، والصدقة، روى أحمد عن قيس بن أبي غرزة الكناني قال: «كنا نبتاع الأوساق بالمدينة، وكنا نسمّى السماسرة، قال: فأتانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمانا باسم هو أحسن مما كنا نسمّي به أنفسنا فقال: يا معشر التجار، إن هذا البيع يحضره اللغو والحلف، فشوُبوه بالصدقة». وروى أحمد عن أبي المنهال: «أن زيد بن أرقم والبراء بن عازب كانا شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمرهما أنّ ما كان بنقد فأجيزوه، وما كان بنسيئة فردوه» فمنعهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ربا النسيئة. فهذا كله هو قضاء الحِسْبَة، فإن تسمية القضاء الذي يفصل في الخصومات التي تَضرُّ حق الجماعة بالحِسْبَة هو اصطلاح لعمل مُعيّن في الدولة الإسلامية، أي مراقبة التجار، وأرباب الحِرَف، لمنعهم من الغش في تجارتهم،وعملهم، ومصنوعاتهم، وأخذهم باستعمال المكاييل والموازين وغير ذلك مما يَضرّ الجماعة. وهذا العمل نفسه هو ما بَيّنه صلى الله عليه وآله وسلم، وأمَرَ به، وتوَلّى الفصل فيه، كما هو ظاهر في حديث البراء بن عازب، حيث منع الطَرَفَيْن من النَسيئة. وكذلك فقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سعيد بن العاص على سوق مكة بعد الفتح كما جاء في طبقات ابن سعد، وفي الاستيعاب لابن عبد البر، ولهذا فإن دليل الحِسْبَة هو السنة. وقد استعمل عمر بن الخطاب الشفاء امرأة من قومه وهي أم سليمان بن أبي حثمة قاضياً على السوق أي قاضي حسبة، كما عيَّن عبد الله بن عتبة على سوق المدينة، كما نقل ذلك مالك في موطئه والشافعي في مسنده، وكان كذلك يقوم بنفسه في قضاء الحِسْبَة، وكان يطوف بالأسواق كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وظل الخليفة يقوم بالحسبة إلى أن جاء المهدي فجعل للحسبة جهازاً خاصاً فصارت من أجهزة القضاء. وفي عهد الرشيد كان المحتسب يطوف بالأسواق، ويَفحَص الأوزان والمكاييل مِن الغش، وينظر في معاملات التُجار.
  3. وأما دليل القضاء الذي يقال له قاضي المظالم فهو قوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وقد جاء هذا بعد قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} فالنزاع بين الرعية وأولي الأمر يجب رده إلى الله ورسوله، أي إلى حكم الله. وهذا يقتضي وجود قاضٍ يحكم في هذا النزاع وهو قاضي المظالم؛ لأن مما يشمله تعريف قضاء المظالم النظر فيما يقع بين الناس وبين الخليفة. وكذلك فإن دليل قضاء المظالم هو فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقوله، إلا أنه عليه الصلاة السلام لم يجعل قاضياً خاصاً للمظالم وحدها في جميع أنحاء الدولة، وكذلك سار الخلفاء من بعده من كونهم كانوا هُم يتوَلّون المظالم كما حصل مع عليِّ بن أبي طالب ، ولكنه كرم الله وجهه لم يكن يجعل لها وقتاً مخصوصاً، وأسلوباً معيناً، بل كانت تُرى المَظْلِمَة حين حدوثها، فكانت من جملة الأعمال. وظَلَّ الحال كذلك إلى أيام عبد الملك بن مروان، فإنه أول خليفة أفرد للظُلامات وقتاً مخصوصاً، وأسلوباً معيناً. فكان يخصص لها يوماً معيناً، وكان يتصفح الظُلامات، فإن أشكل عليه شيء منها دفعه إلى قاضيه ليحكم به، ثم صار الخليفة يرتب عنه نُواباً ينظرون في ظُلامات الناس، وصار للمظالم جهاز خاص، وكان يُسمى (دار العدل). وهذا جائز من ناحية تعيين قاضٍ مُعيّن لها، لأن كل ما للخليفة من صلاحيات يجوز له أن يعين عنه من ينوب منابه بالقيام به، وجائز من حيث تخصيص وقت مُعيّن، وأسلوب معين؛ لأنه من المباحات.

القضاء في دستور دولة الخلافة على منهاج النبوة، خير دولة لخير أمة، الفرض والوعد، البشرى والمجد

هل وجدت في موقع " دولة الخلافة على منهاج النبوة" خيرا، أرشد إليه، فالدال على الخير كفاعله