طباعة
المجموعة: فقه الحكم ولإدارة

إن العناصر الأساسية التي تقوم عليها الدولة الإسلامية، دولة الخلافة مفقودة في الدولة الإلهية الكهنوتية التي ابتدعها الغرب في عصورهم الوسطى. ولذلك من الظلم والكذب والجهل أن تقاس دولة الخلافة الإسلامية بالدول الأوروبية الدينية الكهنوتية التي كانت قائمة في أوروبا في القرون الوسطى .

 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ؛ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًاولقد استغل الغرب الكافر الإنحطاط الفكري والسياسي ،الذي هيمن على الامة الإسلامية غداة سقوط دولة الخلافة في أوائل القرن الماضي ،فأصبح المجتمع الإسلامي تربة صالحة للغزو الثقافي والفكري الرأسمالي ، وأوجد مغالطة أن تدخل أى دين في السياسة يفسد الحياة السياسية، وخاصة عند المثقفين والمتعلمين ،الذين قاموا ينادون بدعوة الغرب بفصل الدين عن الدولة وبأن دولة الخلافة دولة دينية كهنوتية تحول دون التقدم والعلم ، والحقيقة غير هذا.

فالدولة الإسلامية هي الخلافة، وهي رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا، فإذا بويع لخليفة بيعة صحيحة في أي بلد من بلاد المسلمين، وأقيمت الخلافة، فإنه يحرم على المسلمين في كل بقاع الدنيا أن يقيموا خلافة أخرى؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». والخلافة هي لإقامة أحكام الشرع الإسلامي، بالأفكار التي جاء بها الإسلام والأحكام التي شرعها، ولحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، بتعريفهم الإسلام ودعوتهم إليه، والجهاد في سبيل الله. ويُقال لها الإمامة وإمارة المؤمنين. فهي منصب دُنيوي، وليست منصباً أخروياً. وهي موجودة لتطبيق دين الإسلام على البشر، ولنشره بين البشر. وهي غير النبوة قطعاً.

فالنبوة منصب إلهي، يعطيها الله لمن يشاء، يتلقى فيها النبي أو الرسول الشرع من الله بواسطة الوحي، بينما الخلافة منصب بشري، يُبايع فيه المسلمون مَنْ يشاؤون، ويُقيمون عليهم خليفة مَنْ يُريدون مِن المسلمين. وسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان حاكماً، يطبق الشريعة التي جاء بها. فكان يتولى النبوة والرسالة، وكان في الوقت نفسه يتولى منصب رئاسة المسلمين في إقامة أحكام الإسلام. وقد أمره الله بالحكم، كما أمره بتبليغ الرسالة. فقال له: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ}، وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}، كما قال له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، وقال: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ ِلأَنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}، وقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ؛ قُمْ فَأَنذِرْ}.

فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يتولى مَنصِبين: مَنصِب النبوة والرسالة، ومَنصِب رئاسة المسلمين في الدنيا لإقامة شريعة الله التي أوحى له بها.

أما الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يتولاها بشر " الخلفاء" ، وهم ليسوا أنبياء، فيجوز عليهم ما يجوز على البشر من الخطأ، والسهو، والنسيان، والمعصية، وغير ذلك؛ لأنهم بشر. فهم ليسوا معصومين؛ لأنهم ليسوا أنبياء ولا رسلاً. ولذلك كان حق الطاعة لهم على الأمة ليس مطلقاً، وإنما مقيداَ بطاعتهم لله، بل واقترن فرض الطاعة في غير معصية مع فرض المحاسبة! فالحاكم والمحكوم عبد لله

وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأن الإمام (الخليفة) يمكن أن يخطئ، كما أخبر بأنه يمكن أن يحصل منه ما يُبَغِّضُه للناس، من ظلم ومعصية، وغير ذلك، بل أخبر بأنه قد يحصل منه كفر بَواح، وعندها لا يطاع، بل يُقاتَل. فقد روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنما الإمام جُنَّة، يقاتل من ورائه ويُتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه»، وهذا يعني أن الإمام غير معصوم، وأنه جائز عليه أن يأمر بغير تقوى الله. وروى مسلم عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم» [عبد الله هو ابن مسعود]. وروى البخاري عن جُنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا: أصلحك الله، حدّث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «دعانا النبي صلى الله عليه وآله وسلمفبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعَنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وان لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفراً بَواحاً عندكم من الله فيه برهان» وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله. فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» رواه الترمذي. فهذه الأحاديث صريحة في أنه يمكن لإمام المسلمين وخليفتهم أن يخطئ، وأن ينسى، وأن يعصي. ومع ذلك فقد أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بلزوم طاعته ما دام يحكم بالإسلام، ولم يحصل منه كفر بَواح، ومالم يأمر بمعصية؛ ولذلك فإن الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر يخطئون ويصيبون، وليسو معصومين أي ليسوا أنبياء حتى يقال إن الخلافة دولة إلهية، بل هي دولة بشرية يبايع فيها المسلمون خليفة لإقامة أحكام الشرع الإسلامي.