إن نظام الحكم في الإسلام نظام مميز في أصله كونه من الله العليم الحكيم، وفي تفصيله المقيد بمصادر التشريع الإسلامية... ومن ميزاته أنه نظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فجعل حق الطاعة للخليفة مقيدا، وفرض على الأمة محاسبة الحاكم كما فرض عليها طاعته ما لزم شرع الله!

 ففي حكم المحاسبة والطاعة في الاسلام ونظيرها المعارضة في الديمقراطية الرأسمالية العلمانية فارق جوهري يغيب عن الكثيرين بين نظام الحكم الإسلامي – نظام الخلافة، ونظام الحكم العلماني الرأسمالي الديمقراطي . فالإسلام نظام يقوم على مبدأ، أي عقيدة ينبثق عنها نظام ينظم كل شؤون الحياة.

ومما لا شك فيه أن محاسبة الحاكم وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر في هذا النظام، ليس هو مجرد حق سياسي للمسلم يمارسه متى شاء، بل هو فرض إلهي عليه يجب أن يقوم به، وعبادة يتقرب بها إلى الله تعالى، وهذا الحكم الشرعي العظيم يختلف عن المعارضة السياسية في النظام الديمقراطي الجمهوري من وجهين:

أولاً: يرفض الإسلام فكرة المعارضة الدائمة للنظام السياسي، أي المعارضة من أجل المعارضة، فهذه الفكرة ابتدعها فلاسفة المجتمعات في الغرب كردة فعل على استبداد الملوك في أوروبا وحكمهم المطلق، وأيضاً فقد اعتبروا أن السلطة السياسية لها أثر سلبي على حرية الرأي والحرية الفردية التي يقدسونها، مما يستلزم تقييدها في أضيق الحدود، فجاءوا بنظرية المعارضة لإيجاد نوع من التوازن في السلطة والحيلولة دون استبداد الحكومة. فعالجوا مشكلة الاستبداد بإيجاد مناوئ للحكومة يسعى إلى إضعافها، فهم كالذي يكبّل الفرس الجموح خشية عدم السيطرة عليه، بدلاً من ترويضه للاستفادة من قوته وطاقته.

وهذا ما يفعله الإسلام في نظام حكمه، فهو لا يكبل الحاكم بالحد من صلاحياته وإيجاد قرين له لا همّ له سوى التضييق عليه ومناوأته، بل أعطى للحاكم كل الصلاحيات اللازمة، وأطلق له العنان لاستخدامها بقوة وجدّ لأداء واجبه في رعاية الشؤون، وأوجب على الرعية طاعته، حتى يَسْهُلَ التنفيذ، وتُحَل المشاكل بيسر وسرعة، ويسير المجتمع كله بقوة إلى الأمام، يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، وكذلك فقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم على وجوب طاعة الأمير، حيث قال: "ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني"، وقال: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة يقودكم بكتاب الله". تدل هذه الأحاديث أن طاعة الحاكم في الإسلام أداء لفرض من فروض الدين، وهي ليست نابعة من خوف من سطوة الحاكم، أو رغبة في دفع شر ما، بل هي نابعة من إيمان بمبدأ، واعتناق لعقيدة، وانقياد لأمر الله.

ومع ذلك فلم يجعل الإسلام هذه الطاعة مطلقة، بل قيدها بالمعروف وعدم القيام بمعصية الله، فقد نهى الإسلام عن الطاعة في المعصية، قال صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب و كره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة". فالطاعة واجبة ما أقام الحاكم الشرع، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: { وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الذين يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}، وقوله تعالى: { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}. ولذا فإن الإمام يطاع في كل معروف ولا طاعة له في المعصية.

وأيضاً فإن الإسلام لم يجعل سلطة الحاكم مطلقة بل قيدها بحدود الشرع، وألزمه أن يتقيد بها وينقاد لها، فالسيادة في الدولة للأحكام الشرعية وليست للحاكم، بل إن الإسلام أمر الناس بالخروج على الحاكم ونزع السلطان منه إذا أظهر الكفر البواح، ففي حديث عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ويسرنا وعسرنا وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان." فعدم منازعة أولي الأمر أمرَهُم مقيد بعدم ظهور الكفر البواح، أي الخروج على أحكام الله، فمفهوم المخالفة في الحديث أنه إذا أظهر الحاكم الكفر البواح وجب الخروج عليه.

ومن هذا يتبين أن الحكم في الإسلام مقيد وليس مطلقًا، ولكنه مقيد بالكيف لا بالكم، فما دام الحاكم سائرًا بانضباط في إطار الشرع، فله صلاحياته ويجب أن يُطاع، وإذا خرج عن هذا الإطار بطُلت الطاعة، ووجب الخروج عليه إلى أن يعود إلى أحكام الله أو يُعزل عن الحكم.

وكذلك فإن يقظة الأمة في محاسبة الحاكم، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، تدفعه إلى الانضباط من تلقاء نفسه، وإلى الاجتهاد في أدائه لنوال رضاها، فإن نقمة الرأي العام وسخطه هو أخشى ما يخشاه الحاكم.

ومن هنا نرى أنه لا استبداد في نظام الحكم في الإسلام، بل هناك قيود وانضباط من قبل الحاكم والمحكومين.

ثانياً: تنطلق المعارضة في النظام الجمهوري من قاعدة الحفاظ على"حرية الرأي و "الحرية الفردية" ومنع الاستبداد، وتهدف حصرا إلى إظهار خطأ الممارسات السياسية للحكومة، والكشف عنها بهدف إضعافها وإسقاطها، فالمشاركة السياسية في النظام الديمقراطي الغربي تجسد رغبة الأفراد في الحد من سلطة الحاكم، وبالتالي التخفيف من سيطرة الدولة.

 

أما الإسلام، فقد جعل محاسبة الحاكم وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وسيلة للتأكد من التزامه بالشرع وحمايته من ارتكاب الأخطاء، وبعبارة أخرى فمحاسبة الحاكم في الإسلام هي حراسة للدين من الضياع، ومنع لتفشي الظلم والفساد، تهدف إلى مواجهة انحراف الحكومة، فهي أداة لتقوية الحاكم في حسن الرعاية وترشيد حكمه إلى ما فيه الصلاح للبلاد والعباد، وليس لفضحه أمام الناس بهدف إضعافه وإسقاطه، فشتان بين الأمرين.

وكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاسبة الحاكم حقًا سياسيًا للمسلمين، وواجباً شرعياً عليهم، فهذا يضمن تطبيق الإسلام تطبيقاً كاملاً وصحيحاً، ويضمن إقامة العدل وتحقيق الطمأنينة للناس، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: { الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ}، وبذلك يقدم النظام السياسي الإسلامي تجسيداً حقيقياً للمشاركة السياسية، والحقوق السياسية للأفراد في هذا النظام.

وأمر آخر نود لفت النظر إليه، وهو لا يقل أهمية عما سبق، وهي قضية الشورى بين الحاكم والرعية، فقد أكد الشارع على موضوع الشورى، وجعله حقاً للرعية على الحاكم، وما كان أحد أكثر مشورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فبالتشاور تنجلي الأمور وتتبلور، ويُضاء الطريق ويتبين الدرب الذي يراد السير فيه، ومجلس الأمة في دولة الخلافة من أوجب واجباته مشاورة الحاكم وإبداء النصح له، فيكون على بينة من أمره، ويحسن في رعاية شؤون الناس، فأين النظام الديمقراطي من هذا الحكم العظيم؟ حيث تتلقف المعارضة سقطات الحاكم للهجوم عليه، وهي ليست معنية بنجاحه، بل تريد فشله لتحل محله، وهي لا يمكن أن تبدي له النصيحة المخلصة ليحسن رعاية الشؤون، فهذا مخالف لسبب وجودها، فهي ليست موجودة لمساعدته بل لمهاجمته، ولا تكترث إن ضاعت مصالح الناس بين ذلك.

وإذا أردنا تلخيص الفرق بين المحاسبة والشورى في نظام الإسلام والمعارضة في النظام الديمقراطي نقول: إن المحاسبة والشورى في الإسلام هي من أجل إنجاح الحاكم في رعاية شؤون الناس أفضل رعاية، والمعارضة في الديمقراطية هي من أجل إفشال الحاكم في هذه الرعاية وإسقاطه.

وليس أدل على صحة ما نقول من الصراع الحاصل هذه الأيام في الولايات المتحدة بين الرئيس الديمقراطي والمعارضة في الكونجرس من الجمهوريين، فمنذ سنة والرئيس يفشل في إقرار ميزانية للولايات المتحدة بسبب اعتراض الغالبية الجمهورية في الكونجرس وتمنعها، ما أوصل الولايات المتحدة إلى هاوية الإفلاس، بكل ما لذلك من تبعات ومصائب على الاقتصاد العالمي جراء تحكم الدولار فيه، وكل ما استطاعوا الاتفاق عليه هو تأجيل إعلان الإفلاس لبضعة أشهر، وهذا التحجر في المواقف سببه خشية الجمهوريين من فقدان جزء من قاعدتهم الانتخابية، وعزمهم قبل كل شيء على إفشال سياسات الرئيس الديمقراطي الاقتصادية ومعالجاته، وإظهار هذا الفشل للناس، لرفع فرص فوز حزبهم الجمهوري في انتخابات الكونجرس وانتخابات الرئاسة المقبلة، حتى إذا كان هذا على حساب مصالح الشعب الأمريكي وإنعاشه اقتصادياً وإيجاد فرص عمل له.

وهذه المعارضة من أجل أجندات خاصة ومصالح حزبية ضيقة على حساب مصلحة الشعب هي خيانة وفسق، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ"}

ثم إن الاتهامات المتبادلة بين الحكام والمعارضة في حال عدم الاتفاق، والتلفيق ولي الكلام من كلا الطرفين لعدم تحمل مسؤولية الفشل كما هو مشاهد الآن في الولايات المتحدة هو كذب وقول للزور، وقد نهى سبحانه وتعالى عن هذا بقوله: "وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور"، ونهى عن التلفيق وكتمان الحق بقوله: { لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون}.

إذن فالإسلام يرفض فكرة المعارضة من أجل المعارضة، وهي تقوم على مرتكزات تخالف الشرع.

ومن هذا كله يتبين أن محاسبة الحاكم في دولة الخلافة هي جزء أصيل من نظام الحكم في الإسلام، يقوم به الأفراد والجماعات والأحزاب الإسلامية في الدولة. وهذا الذي يجعل الدولة تسير في تطبيقها للإسلام في الاتجاه الصحيح إذ وراءها أمة واعية على حقوقها تحاسب الدولة إن هي قصرت في تطبيق الإسلام أو ظلمت أو تجبرت أو خرجت عن الخط المستقيم الذي رسمه لها الإسلام.

فإلى إقامة هذا النظام السياسي الفريد في ظل دولة الخلافة الإسلامية ندعوكم أيها المسلمون!