طباعة
المجموعة: فقه الحكم ولإدارة

إن الإجراءات العملية، التي تتم بها عملية تنصيب الخليفة، قبل أن يُبايَع، يجوز أن تأخذ أشكالاً مختلفة، كما حصل مع الخلفاء الراشدين، الذين جاءوا عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، رضوان الله عليهم، وقد سكت عنها جميع الصحابة، وأقروها، مع أنها مما ينكر لو كانت مخالفة للشرع؛ لأنها تتعلق بأهم شيء يتوقف عليه كيان المسلمين، وبقاء الحكم بالإسلام.

ومن تَتَبُّع ما حصل في نصب هؤلاء الخلفاء:السيادة للشرع والسلطان للأمة

  1. نجد أن بعض المسلمين قد تناقشوا في سقيفة بني ساعدة، وكان المرشحين سعداً، وأبا عبيدة، وعمر، وأبا بكر، إلا أن عمر وأبا عبيدة لَم يرضيا أن يكونا منافسين لأبي بكر، فَكَأنَّ الأمر كان بين يدي أبي بكر وسعد بن عبادة ليس غير، وبنتيجة المناقشة بُويع أبو بكر. ثم في اليوم الثاني دعي المسلمون إلى المسجد فبايعوه، فكانت بيعة السقيفة بيعة انعقاد، صار بها خليفة للمسلمين، وكانت بيعة المسجد في اليوم الثاني بيعة طاعة.
  2. وحين أحس أبو بكر بأن مرضه مرض موت، وبخاصة وأن جيوش المسلمين كانت في قتال مع الدول الكبرى آنذاك الفرس والروم، دعا المسلمين يستشيرهم فيمن يكون خليفة للمسلمين، ومكث مدة ثلاثة أشهر في هذه الاستشارات. ولما أتمها وعرف رأي أكثر المسلمين، عهد لهم، أي (رشّح) بلغة اليوم، ليكون عمر الخليفة بعده، ولم يكن هذا العهد أو الترشيح عقداً لعمر بالخلافة من بعده؛ لأن المسلمين بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه حضروا إلى المسجد وبايعوا عمر بالخلافة، فصار بهذه البيعة خليفة للمسلمين، وليس بالاستشارات، ولا بعهد أبي بكر؛ لأن ترشيحه من أبي بكر لو كان عقداً للخلافة لعمر لما احتاج إلى بيعة المسلمين، هذا فضلاً عن النصوص التي ذكرناها سابقاً التي تدل صراحة على أنه لا يصبح أحد خليفة إلا بالبيعة من المسلمين.
  3. وحين طُعن عمر، طلب منه المسلمون أن يستخلف فأبى، فألحوا عليه فجعلها في ستة، أي (رشَّح) لهم ستة، ثم عيّن صهيباً ليصلي بالناس، وليقوم على من رشحهم عمر حتى يختاروا من بينهم الخليفة خلال الأيام الثلاثة التي عينها لهم، وقد قال لصهيب: «... فإن اجتمع خمسة، ورضوا رجلاً، وأبى واحد، فاشدخ رأسه بالسيف... » كما نقل ذلك الطبري في تاريخه، وابن قتيبة صاحب كتاب الإمامة والسياسة المعروف بتاريخ الخلفاء، وابن سعد في الطبقات الكبرى ثم عيّن أبا طلحة الأنصاري مع خمسين رجلاً لحراستهم، وكلَّف المقداد بن الأسود أن يختار للمرشحين مكان اجتماعهم، ثم بعد وفاته رضي الله عنه وبعد أن استقر المجلس بالمرشحين، قال عبد الرحمن بن عوف: أيكم يخرج منه نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم فسكت الجميع، فقال عبد الرحمن أنا أخلع نفسي ثم أخذ يستشيرهم واحداً واحداً يسألهم أنه لو صرف النظر عنه من كان يرى فيم أحق بها، فكان جوابهم محصوراً في اثنين: علي وعثمان. بعد ذلك رجع عبد الرحمن لرأي المسلمين يسألهم أي الاثنين يريدون: يسأل الرجال والنساء، يستطلع رأي الناس، ولم يكن رضي الله عنه يعمل في النهار فحسب بل في الليل كذلك. أخرج البخاري من طريق المِسْوَر بن مخرمة قال: (طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل، فضرب الباب حتى استيقظت، فقال أراك نائماً، فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكثير نوم) أي ثلاث ليال. فلما صلى الصبح تمت بيعة عثمان. فصار خليفة ببيعة المسلمين، لا بجعلها عمر في ستة.
  4. ثم قُتل عثمان، فبايع جمهرةُ المسلمين في المدينة والكوفة عليّ بن أبي طالب، فصار فرجع لرأي المسلمين واستشارهم، ثم أعلن بيعة علي، فقام المسلمون فبايعوا عليا، فصار خليفة ببيعة المسلمين.

وبالتدقيق في كيفية مبايعتهم، رضوان الله عليهم، يتبين أن المرشَّحين للخلافة كانوا يُعلَنون للناس، وأن شروط الانعقاد تتوفر في كلٍّ منهم، ثم يؤخذ رأي أهل الحل والعقد من المسلمين، الممثلين للأمة، وكان الممثِّلون معروفين في عصر الخلفاء الراشدين، حيث هم كانوا الصحابة، رضوان الله عليهم، أو أهل المدينة. ومَنْ كان الصحابة أو أكثريتهم يريدونه بويع بيعة الانعقاد، وأصبح الخليفة، فيبايعه المسلمون بيعة الطاعة. وهكذا يوجد الخليفة، ويصبح نائباً عن الأمة في الحكم والسلطان.

هذا ما يفهم مما حصل في بيعة الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم، وهناك أمران آخران يفهمان من ترشيح عمر للستة وإجراءات بيعة عثمان رضي الله عنه، وهما: وجود الأمير المؤقت الذي يتولى فترة تنصيب الخليفة الجديد، وحصر المرشحين بستة كحدٍ أقصى.