طباعة
المجموعة: فقه الحكم ولإدارة

إن شكل نظام الحكم في الإسلام (الخـلافة) متميز عن أشكال الحكم المعروفة في العالم، سواء أكان في الأساس الذي يقوم عليه، أم بالأفكار والمفاهيم والمقاييس والأحكام التي ترعى بمقتضاها الشؤون، أم بالدستور والقوانين التي يضعها موضع التطبيق والتنفيذ، أم بالشكل الذي تتمثل به الدولة الإسلامية، والذي تتميز به عن جميع أشكال الحكم في العالم أجمع:

فهو ليس نظاماً ملكياً،  ولا يُقر النظام الملكي، ولا يشبه النظام الملكي؛ وذلك لأنه في النظام الملكي يصبح الابن ملكاً بالوراثة، ولا علاقة للأمة بذلك. أما في نظام الخلافة فلا وراثة، بل إن بيعة الأمة هي الطريقة لنصب الخليفة. وكذلك فإن النظام الملكي يخص الملك بامتيازات وحقوق خاصة لا تكون لأحد سواه من أفراد الرعية،  ويجعله فوق القانون، ورمزاً للأمة: يملك ولا يحكم كما في بعض الأنظمة الملكية، ويملك ويحكم متصرفاً بالبلاد والعباد هواه كما في أنظمة ملكية أخرى، ويمنع ذاته من أن تمس مهما أساء وظلم. أما في نظام الخلافة فلا يخص الخليفة بأية امتيازات تجعله فوق الرعية على النحو الملكي، أو حقوق خاصة تميزه في القضاء عن أي فرد من أفراد الأمة، كما أنه ليس رمزاً لها بالمعنى المذكور في النظام الملكي، بل هو نائب عن الأمة في الحكم والسلطان اختارته وبايعته ليطبق عليها شرع الله، وهو مقيد في جميع تصرفاته وأحكامه ورعايته لشؤون الأمة ومصالحها بالأحكام الشرعية.

وكذلك هو ليس نظاماً إمبراطورياً، إذ إن النظام الإمبراطوري بعيد عن الإسلام كل البعد. فالأقاليم التي يحكمها الإسلام - وإن كانت مختلفة الأجناس، وترجع إلى مركز واحد - فإنه لا يحكمها بالنظام (الإمبراطوري) بل بما يناقض النظام (الإمبراطوري)؛ لأن النظام (الإمبراطوري)لا يساوي بين الأجناس في أقاليم (الإمبراطورية) بالحكم، بل يجعل ميزة لمركز (الإمبراطورية) في الحكم والمال والاقتصاد.

وطريقة الإسلام في الحكم هي أنه يسوي بين المحكومين في جميع أجزاء الدولة، وينكر العصبيات الجنسية، ويعطي لغير المسلمين الذين يحملون التابعية حقوق الرعية وواجباتها وفق أحكام الشرع، فلهم ما للمسلمين من الإنصاف، وعليهم ما على المسلمين من الانتصاف، بل هو أكثر من ذلك لا (ينبه غير موجودة هنا في المعتمد) يجعل لأي فرد من أفراد الرعية أمام القضاء - أياً كان مذهبه - من الحقوق ما ليس لغيره ولو كان مسلماً، فهو بهذه المساواة يختلف عن (الإمبراطورية) وهو بهذا النظام لا يجعل الأقاليم مستعمرات، ولا مواضع استغلال، ولا منابع تصب في المركز العام لفائدته وحده، بل يجعل الأقاليم كلها وحدة واحدة مهما تباعدت المسافات بينها، وتعددت أجناس أهلها، ويعتبر كل إقليم جزءاً من جسم الدولة، ولأهله سائر الحقوق التي لأهل المركز،  أو لأي إقليم آخر، ويجعل سلطة الحكم ونظامه وتشريعه كلها واحدة في الأقاليم كافةً.

وهو ليس نظاماًً اتحادياً تنفصل أقاليمه بالاستقلال الذاتي وتتحد في الحكم العام، بل هو نظام وحدة، تعتبر فيه مراكش في المغرب، وخراسان في المشرق، كما تعتبر مديرية الفيوم إذا كانت العاصمة الإسلامية هي القاهرة. وتعتبر مالية الأقاليم كلها مالية واحدة، وميزانية واحدة، تنفق على مصالح الرعية كلها، بغض النظر عن الولايات. فلو أن ولاية كانت وارداتها ضعف حاجاتها، فإنه ينفق عليها بقدر حاجاتها، لا بقدر وارداتها. ولو أن ولاية لم تكف وارداتُها حاجاتِها فإنه لا ينظر إلى ذلك، بل ينفق عليها من الميزانية العامة بقدر حاجتها، سواء أوفت وارداتها بحاجاتها أم لم تفِ.

وهو ليس نظاماً جمهورياً. فإن النظام الجمهوري أول ما نشأ كان ردة فعل على طغيان النظام الملكي، حيث كانت للملك السيادة والسلطان يحكم ويتصرف بالبلاد والعباد كما يريد ويهوى، فهو الذي يضع التشريع كما يريد. فجاءت الأنظمة الجمهورية، ونقلت السيادة والسلطان للشعب فيما سمي بالديمقراطية. فصار الشعب هو الذي يضع قوانينه فيحلل ويحرم، ويحسن ويقبح، وصار الحكم بيد رئيس الجمهورية ووزراءه في النظام الجمهوري الرئاسي، وبيد مجلس الوزراء في النظام الجمهوري البرلماني (ويكون مثل هذا – أي الحكم بيد مجلس الوزراء – في الأنظمة الملكية التي نُزعت صلاحية الحكم فيها من الملك حيث بقي رمزاً يملك ولا يحكم).

وأما في الإسلام، فالتشريع ليس للشعب، بل هو لله وحده، ولا يحق لأحد أن يحلل أو يحرم من دون الله، وجعْل التشريع للبشر هو جريمة كبرى في الإسلام. ولما نزلت الآية الكريمة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} فسرها الرسول صلى الله عليه وآله وسلمبأن الأحبار والرهبان كانوا يُشَرِّعون فيحللون ويحرمون للناس فيطيعونهم، وهذا هو اتخاذهم أرباباً من دون الله كما بيَّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسيره للآية الكريمة؛ للدلالة على عظم جريمة مَنْ يحلل ويحرم من دون الله سبحانه. أخرج الترمذي من طريق عَدِيّ ابن حاتم قال: «أَتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلموفي عنقي صليب من ذهب، فقال يا عدي اطرح عنك هذا الوثن. وسمعته يقرأ في سورة براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: أَمَا إنهم لم يكونوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرًموه».

كما أن الحكم في الإسلام ليس عن طريق مجلس وزراء ووزراء لهم اختصاصات وصلاحيات وميزانيات منفصلة عن بعضها، قد تزيد هذه وتنقص تلك، فلا ينقل الفائض من هذه إلى تلك إلا بإجراءات كثيرة مطوَّلة، ما يسبب تعقيداتٍ في حل مصالح الناس؛ لتداخل عدة وزارات في المصلحة الواحدة، بدل أن تكون مصالح الناس ضمن جهاز إداري واحد يجمعها. ففي النظام الجمهوري يجزَّأ الحكم بين الوزارات، ويجمعها مجلس وزراء يملك الحكم بشكل (جماعي). وفي الإسلام لا يوجد مجلس وزراء بيده الحكم بمجموعه (على الشكل الديمقراطي)، بلإن الخليفة هو الذي تبايعه الأمة ليحكمها بكتاب الله وسنة رسوله، والخليفة يعين له معاونين (وزراء تفويض) يعاونونه في تحمل أعباء الخلافة، فهم وزراء بالمعنى اللغوي، أي معاونون للخليفة فيما يُعَيِّنُهم له.

ونظام الحكم في الإسلام ليس ديمقراطياً بالمعنى الحقيقي للديمقراطية، من حيث إن التشريع للشعب، يحلل ويحرم، يحسن ويقبح. ومن حيث عدم التقيد بالأحكام الشرعية باسم الحريات. والكفار يدركون أن المسلمين لن يقبلوا الديمقراطية بمعناها الحقيقي هذا؛ لذلك فإن الدول الكافرة المستعمِرة (وبخاصة أميركا اليوم) تحاول تسويقها في بلاد المسلمين، بإدخالها عليهم من باب التضليل، بأن الديمقراطية هي آلية انتخاب الحاكم؛ لإعطاء صورة مضللة للمسلمين، كأن الأمر الأساس في الديمقراطية هو انتخاب الحاكم. ولأن بلاد المسلمين مبتلاة بالبطش والظلم وتكميم الأفواه والكبت (والديكتاتورية) سواء أكان في الأنظمة المسماة ملكية أم جمهورية؛ نقول لأن بلاد المسلمين مبتلاة بهذا، فقد سَهُل على الكفار تسويق الديمقراطية في بلاد المسلمين من حيث إنها انتخاب الحكام، ولفُوا وداروا على الجزء الأساس فيها، وهو أن يصبح التشريع والتحليل والتحريم للبشر وليس لرب البشر، حتى إن بعض (الإسلاميين، بل والمشايخ منهم) أَخَذوا بهذه الخدعة بحسن نية أو بسوء نية، فإذا سألتهم عن الديمقراطية أجابوك بجوازها على اعتبار أنها انتخاب الحاكم، وسيّئو النية منهم يلفّون ويدورون مبتعدين عن المعنى الحقيقي الذي وضعه لها أهلها من كونها تعني السيادة للشعب يشرع ما يشاء برأي الأغلبية، يحلل ويحرم، يحسن ويقبح، وأن الفرد (حرّ) في تصرفاته يفعل ما يشاء، يشرب خمراً، يزني، يرتد، يشتم المقدسات ويسبها، تحت مسمى الديمقراطية وحرياتها. هذه هي الديمقراطية، وهذا واقعها ومدلولها وحقيقتها، فكيف لمسلم يؤمن بالإسلام أن يتجرأ على القول بأن الديمقراطية تجوز، أو أنها من الإسلام؟!

أما موضوع اختيار الأمة للحاكم، أي اختيار الخليفة، فهو أمر منصوص عليه. فالسيادة في الإسلام للشرع، ولكن البيعة من الناس للخليفة شرط أساس ليصبح خليفةً. وقد كان انتخاب الخليفة يمارَس في الإسلام في الوقت الذي كان العالم يعيش في ظلام الديكتاتورية وطغيان الملوك. والمتتبع لكيفية اختيار الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم، يرى بكل وضوح كيف كانت تتم لهم بيعة أهل الحل والعقد وممثلي المسلمين؛ لقد دار عبد الرحمن بن عوف t الذي وكِّل بمعرفة رأي ممثلي المسلمين (وهم أهل المدينة)، دار عليهم يسأل هذا وذاك، ويسأل الرجال والنساء ليرى من يختارون من المرشحين للخلافة، إلى أن استقر رأي الناس في نهاية الأمر على عثمان وتمت بيعته.

والخلاصة، إن الديمقراطية نظام كفر، ليس لأنها تقول بانتخاب الحاكم، فليس هذا هو الموضوع الأساس، بل لأن الأمر الأساس في الديمقراطية هو جعل التشريع للبشر وليس لرب العالمين، والله سبحانه يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}، ويقول كذلك سبحانه وتعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، والأدلة متضافرة مشهورة على كون التشريع لله وحده.

هذا بالإضافة إلى ما تقرره الديمقراطية من حريات شخصية، يفعل الرجل والمرأة ما يشاءون دونما شأن لهم بحلال أو حرام، وكذلك الحريات الدينية من ردة وتبديل دين دونما قيد، ثم حرية الملكية التي يستغل القوي فيها الضعيف بشتى الوسائل فيزداد الغني غنىً والفقير فقراً، وكذلك حرية الرأي، ليس في قول الحق، بل إنها ضد مقدسات الأمة، حتى إنهم يعتبرونهم من جهابذة الرأي الذين يغدقون عليهم الجوائز.

وعليه فإن نظام الحكم في الإسلام (الخلافة) ليس نظاماً ملكياً، ولا هو إمبراطورياً، وليس نظاماً اتحادياً، ولا ديمقراطياً، كما بيَّنّاه فيما سبق.