أفعال الرسول ثلاثة أقسام:
- أحدها الأفعال الجِبِليَّة أي الأفعال التي من جبلة الإنسان وطبيعته أن يقوم بها، وذلك كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب، ونحوه. فهذه لا نـزاع في كون الفعل على الإباحة، بالنسبة له ولأمته.
- القسم الثاني: الأفعال التي ثبت كونها من خواصه لا يشاركه فيها أحد، وذلك كاختصاصه بوجوب الوتر، والتهجد بالليل، والمشاورة، والتخيير لنسائه، وكاختصاصه بإباحة الوصال في الصوم، ونحو ذلك مما ثبت أنه خاص بالرسول ، فهذه لا نـزاع في أنه لا يجوز الإقتداء فيها بالنبي ؛ لأن ذلك مما اختص به الرسول .
- القسم الثالث: ما ليس من الأفعال الجبلية، وليس مما اختص به ، أي سائر الأفعال، وهذه لا نـزاع في أننا مأمورون بالإقتداء فيها بالرسول ، ولا نـزاع في أنها دليل شرعي كأقواله وسكوته، فيجب العمل به لأنه فعله ؛ لقوله تعالى: (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)) ولقوله تعالى: (( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ))وقوله تعالى: (( قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي)) وهذا صريح وواضح وظاهر في العموم، فيشمل كل ما يقوم به الرسول من أعمال، كما يشمل الأقوال ويشمل السكوت؛ ولذلك كان اتباع الرسول في جميع أفعاله التي صدرت عنه، مما ليس مختصاً به، ومما ليس من الأفعال الجبلية، واجباً على كل مسلم؛ لأن الرسول لا يتبع إلا ما يوحى إليه. غير أن وجوب اتباع الرسول، .
معنى وجوب اتباع الرسول :
لا يعني وجوب القيام بالفعل الذي فعله، بل يعني وجوب الاتباع حسب الفعل، فإن كان الفعل مما يجب، كان القيام به واجباً، وإن كان القيام به مما يندب، كان القيام به مندوباً، وإن كان الفعل مباحاً، كان القيام به مباحاً. فالاتباع واجب حسب ما جاء في الفعل، وهو مثل اتباع أوامر الرسول، فالله تعالى يقول: (( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) فدل ذلك على وجوب طاعة الرسول فيما يأمر به، ولكنه لا يدل على وجوب القيام بما يأمر به، بل يكون القيام به حسب ما أمر به، فإن أمر به على الوجوب كان القيام به واجباً، وإن أمر به على الندب كان القيام به مندوباً، وإن أمر به على الإباحة كان القيام به مباحاً. وكذلك أفعاله يجب اتباعها، ولكن القيام بها حسب ما جاءت به الأفعال.
دلالة أفعال الرسول :
أما متى يـدل الفعل على الوجوب، ومتى يدل على الندب، ومتى يدل على الإباحة، فإن ذلك فيه تفصيل:
- إذ ينظر في الفعل، فإن كان قد اقترن به دليل يدل على أنه بيان خطاب سابق، فإنه يكون بياناً لنا، وذلك كأن يقـول الرسول قولاً صريحاً بأن هذا بيان لكذا، كقوله : «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» أخرجه البخاري، وكقوله: «أَلاَ خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» أخرجه أحمد، أو كأن تكون قرائن الأحوال تدل على ذلك، وذلك كما إذا ورد لفظ مجمل، أو عام أريد به الخصوص، أو مطلق أريد به التقييد، ولم يبينه قبل الحاجة إليه، ثم فعل عند الحاجة فعلاً صالحاً للبيان، فإنه يكون بياناً. فهذه الأفعال التي هي بيان لنا، أي بيان لخطاب سابق، من آية أو حديث، تأخذ حكم المبيـّن، فإن كان المبيـّن فرضاً كان القيام بالفعل فرضاً، وإن كان المبيـّن مندوباً كان القيام بالفعل مندوباً، وان كان المبين مباحاً كان القيام بالفعل مباحاً.
- وأما ما لم يقترن بالفعل ما يدل على أنه للبيان، لا نفياً ولا إثباتاً، أي لم يقترن بالفعل دليل يدل على أنه قصد به بيان خطاب سابق، فإن كونه فرضاً، أو مندوباً، أو مباحاً، يحتاج إلى قرينة، إذ يكون حينئذ مثل طلب الفعل، فإنه لمجرد الطلب، ويحتاج إلى قرينة تعين كونه طلب فعل جازم، أو طلب فعل غير جازم، أو تخيير. وكذلك الفعل الذي لم يقترن به ما يدل على أنه قصد به بيان خطاب سابق، يحتاج إلى قرينة تعين كون القيام به واجباً، أو مندوباً، أو مباحاً، وبحسب هذه القرينة يكون حكم القيام به. غير أنه من استقراء الأفعال التي لم يقترن بها ما يدل على أنه قصد بالفعل بيان خطاب سابق، يتبين أنها نوعان: أحدهما ما يظهر فيه قصد القربة إلى الله تعالى، والثاني ما لا يظهر فيه قصد القربة إلى الله تعالى. فأما الفعل الذي يظهر فيه قصد القربة، فإن القيام به مندوب، وذلك أن كونه مما يتقرب به إلى الله قرينة على ترجيح الفعل على الترك، وكون فعلها لم ترد عقوبة على تركه دليل على أن الطــلب غير جازم، ومن هنا كان مندوباً وليس واجباً. فالقرينة هي التي عينت كونه طــلب فعل غير جازم، أي عينت كونه مندوباً. وأما الفعل الذي لم يظهر فيه قصد القربة، فإن القيام به مباح، وذلك أن كون الرسول فعله يدل على الطلب، وكونه ليس مما يتقرب به إلى الله لا يدل على الترجيح، بل يفهم منه عدم ترجيح الفعل على الترك، فإذا قرن هذا مع دلالة الطلب، كان الطلب طلب تخيير، أي كان مخيراً بين فعله وتركه وذلك هو المباح.
أقوال وردود
1) وهناك من يقول إن القيام بالفعل الذي فعله الرسول واجب، ويستدلون على ذلك بالكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة. أما الكتاب فقوله تعالى: (( فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ)) فقد أمر الله بمتابعته، ومتابعته امتثال القول والإتيان بمثل فعله، والأمر للوجوب فيجب القيام بالفعل. وقال تعالى: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)) فإنه يدل على أن محبة الله مستلزمة للمتابعة ومحبة الله تعالى واجبة إجماعاً، ولازم الواجب واجب، فتكون المتابعة واجبة. وأيضاً قوله تعالى: (( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ))فحذر من مخالفة أمره، والتحذير دليل الوجوب، والأمر يطلق على الفعل كما يطلق على القول. وأيضاً قوله تعالى: (( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)) والأخذ هنا معناه الامتثال، ولا شك أن الفعل الصادر من رسول الله قد آتانا إياه، فيكون امتثاله واجباً للآية. وأيضاً قوله تعالى: (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ))فإن منطوقه أن الأسوة لمن كان يؤمن، فربطها بالإيمان، أي من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فله في رسول الله أسوة حسنة، ومعناه أنه من لم يتأس به لا يكون مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر، وهذا قرينة على الطلب الجازم وهو دليل الوجوب. وأيضاً قوله تعالى: (( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)) أمر بطاعة الرسول والأمر للوجوب، ومن أتى بمثل فعل الغير على قصد إعظامه فهو مطيع له، فيكون القيام بالفعل واجباً. وأيضاً قوله تعالى : (( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا)) فجعل فعله تشريعاً واجب الاتباع، وهذا يدل على أنه فعله واجب الاتباع.
وأما السنة، فما روي أن الصحابة، رضي الله عنهم، خلعوا نعالهم في الصلاة لما خلع نعله، ففهموا وجوب المتابعة له في فعله، والنبي أقرهم على ذلك، ثم بين لهم علة انفراده بذلك، عن أبي سعيد عن النبي : «أَنَّهُ صَلَّى فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: لِمَ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا، قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا خَبَثًا» أخرجه أحمد. وأيضاً ما روي عنه أنه أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة ولم يفسخ، فقالوا له: «أَمَرْتَنَا بِفَسْخِ الْحَجِّ وَلَمْ تَفْسَخْ» ففهموا أن حكمهم كحكمه، والنبي لم ينكر عليهم، بل أبدى عذراً يختص به، وهو سوقه الهدي. وأيضاً ما روي عنه أنه نهى الصحابة عن الوصال في الصوم وواصل، فقالوا له: نهيتنا عن الوصال وواصلت فقال: «إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» أخرجه أحمد، فأقرهم على ما فهموه من مشاركتهم له في الحكم، واعتذر بعذر يختص به.وأيضاً ما أخرجه مسلم عن عمر بن أبي سلمة أنه «سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : سَلْ هَذِهِ - لأُِمِّ سَلَمَةَ - فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَصْنَعُ ذَلِكَ» ولو لم يكن متبعاً في أفعاله لما كان لذلك معنى.وكذلك ما روي عنه في غسل الرأس من الجنابة أنه قال: «أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ عَلَى رَأْسِي ثـَلاَثَ أَكُفٍّ» أخرجه النسائي. وكان ذلك جواباً عندما تمارى القوم في غسل الجنابة عنده . وأيضاً ما روى البخاري عنه أنه أمر الصحابة بالتحلل بالحلق والذبح، فتوقفوا، فشكا ذلك إلى أم سلمة، فأشارت إليه بأن يخرج وينحر ويحلق، ففعل ذلك، فذبحوا وحلقوا، ولولا أن فعله متبع لما كان كذلك.
وأما الإجماع، فلأن الصحابة اختلفوا في وجوب الغسل من الجماع بغير إنـزال، فلما بلغهم فعل رسول الله الذي روته عائشة رضي الله عنها: «فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ فَاغْتَسَلْنَا»أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد، فأجمعوا على الوجوب. وأيضاً ما روي عن عمر t أنه كان يقبل الحجر الأسود ويقول: «إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ» أخرجه البخاري. وكان ذلك شائعاً فيما بين الصحابة من غير نكير، فكان إجماعاً على اتباعه في فعله .
والجواب عن كل هذه الأدلة ينحصر في نقطة واحدة، هو أن هناك فرقاً بين الاتباع، وبين القيام بالعمل، أي هناك فرق بين اتباع الرسول وبين القيام بما فعله الرسول، فاتباع الرسول واجب ولا كلام ولا خلاف في ذلك،ولكنالقيامبالفعل الذي يجب اتباع الرسول به يختلف باختلاف الفعل، فإذا كان الفعل مباحاً، فإن الاتباع فيه اتباع في المباح، أي في أن يخير بين فعله وتركه، ففي هذه الحالة هذا هو الاتباع، فإذا أوجب على نفسه فعله وجعله واجباً لا يكون متبعاً للرسول، بل يكون مخالفاً له، فالاتباع إنما يكون بالقيام به حسب ما جاء به الفعل، فإن جاء به واجباً كان القيام به واجباً، وإن جاء به مندوباً كان القيام به مندوباً، ولا يأثم إن تركه، وإن جاء به مباحاً كان القيام به مباحاً، فيتبعه بالفعل حسب ما جاء به الفعل، وإن خالف ذلك كان غير متبع. والأدلة السابقة كلها أدلة على الاتباع، لا على القيامبالفعل؛ ولذلكلاتصلحدليلاًعلىأنالقيامبالفعل الذي فعله الرسول واجب، فيسقط الاستدلال بها على الوجوب. وهذا نظير الأمر، فإن الأمر ليس للوجوب، فليس كل ما أمر الله به واجباً، وإنما يختلف باختلاف القرائن، فقد يكون ما أمر به واجباً، وقد يكون مندوباً، وقد يكون مباحاً، والواجب في الأمر إنما هو طاعة الأمر، وليس القيام بما أمر به، وطاعته إنما تكون حسب ما أمر به، فإن أمر به على سبيل الوجوب كان القيام به واجباً، وإن أمر به على سبيل الندب كان القيام به مندوباً، وإن أمر به على سبيل الإباحة كان القيام به مباحاً، وإيجاب المباح ليس طاعة للآمر، بل مخالفة لما أمر، وكذلك اتباع الرسول في أفعاله، إنما يكون حسب ما جاء به الفعل.
وهناك من يقول إن القيام بالفعل الذي فعله الرسول مندوب، ويسـتدلـون على ذلك بقوله تعالى: (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)) فإن وصف الأسوة بالحسنة يدل على الرجحان، والوجوب منتف؛ لكونه خلاف الأصل، ولقوله: (( لَكُمْ)) ولم يقل: عليكم، فتعين الندب. والجواب على ذلك أن المراد بالتأسي به في فعله أن نوقع الفعل على الوجه الذي أوقعه هو ، حتى أنه لو صلى واجباً وصلينا متنفلين أو بالعكس فإن ذلك لا يكون تأسياً به، فالتأسي هو القيام بالفعل على ما قام به، وهذا واجب وليس بمندوب، وقوله: ((حَسَنَةٌ))وصف للأسوة، أي تأس حسن، وليس هو دليل الندب. والتأسي واجب، وتدل الآية على أنه واجب، بدليل قوله لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، فهو قال: (( أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ))فهو قرينة تدل على وجوب التأسي. غير أن التأسي هنا لا يفهم منه وجوب القيام بالفعل، وإنما وجوب الاتباع، وبما أن ما فعله لم يثبت كونه واجباً، أو مندوباً، أو مباحاً، إلا بالقرينة؛ فإن القيام به لا يكون واجباً إلا إذا ثبت بالقرينة أنه واجب؛ وعليه فإن الآية تدل على الاتباع، ولا تدل على القيام بالفعل، فلا دلالة فيها على أن القيام بالفعل مندوب.
2) وهناك من يقول إن القيام بالفعل الذي فعله الرسول مباح، وليس بواجب ولا مندوب، وقد استدلوا على ذلك بأن فعله لا يكون حراماً، ولا مكروهاً؛ لأن الأصل عدمه، ولأن الظاهر خلافه، فإن وقوع ذلك، أي المحرم والمكروه، من آحاد عدول المسلمين نادر، فكيف من أشرف المسلمين، وحينئذ فإما أن يكون واجباً، أو مندوباً، أو مباحاً. والأصل عدم الوجوب والندب؛ لأن رفع الحرج عن الفعل أو الترك ثابت، وزيادة الوجوب أو الندب لا تثبت إلا بدليل، ولم يتحقق، فتبقى الإباحة.
والجواب على ذلك أن فعل الرسول المجرد، لما لم يظهر فيه قصد التقرب من الله هو المباح؛ لأن كون الفعل ليس مما يتقرب به إلى الله قرينة على أنه ليس مما يطلب الإقتداء به، وكون الرسول فعله معناه أنه طلب فعله، فيكون الطلب طلب تخيير، وذلك هو المباح. وأما ما عداه، فإن القرينة عينت كونه واجباً أو مندوباً؛ وعليه فإن حصر أفعال الرسول بأنها إنما تدل على الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، ولا تدل على الحرام، ولا على المكروه، صحيح، ولكن حصرها في الإباحة هو الغلط؛ لأن القرائن هي دليل الوجوب أو الندب، وقد تحققت فيما ظهر فيه قصد التقرب به إلى الله تعالى؛ ولذلك كان مندوباً، ولو تحققت قرينة تدل على الوجوب لكان واجباً.
الخلاصة
ومن هذا كله يتبين أن أفعال الرسول لا تدل على الوجوب، ولا على الندب، ولا على الإباحة، وإنما تدل على مجرد طلب الفعل، والقرينة هي التي تعين كونه واجباً، أو مندوباً، أو مباحاً. وهذا في الأفعال التي لم تأت بياناً لخطاب سابق، وأما الأفعال التي جاءت بياناً لخطاب سابق، فإنها تتبع المبين في الوجوب، أو الندب، أو الإباحة.
والأفعال التي فعلها رسول الله ولم تكن بياناً لخطاب سابق، ولا قام الدليل على أنها من خواصه، وعلمت لنا صفته من الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، إما بنصه على ذلك وتعريفه لنا، أو بغير ذلك من الأدلة، أي بقرينة من القرائن، فإن التأسي به واجب، أي أن اتباعه في هذا الفعل فرض، والدليل على ذلك النص وإجماع الصحابة. أما النص فقوله تعالى: (( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا)) ولولا أنه متأسى به في فعله ومتبعاً لما كان للآية معنى. وأيضاً قوله تعالى:(( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)) ووجه الاستدلال به أنه جعل المتابعة له لازمة من محبة الله الواجبة؛ فلو لم تكن المتابعة له لازمة للزم من عدمها عدم المحبة الواجبة، وذلك حرام بالإجماع. أي أن اتباع الرسول شرط في ثبوت محبة الله، فإذا لم يحصل الشرط وهو الاتباع،لم يحصل المشروط وهو محبة الله، وبما أن محبة الله فرض فإن اتباعه يكون فرضاً. وأيضاً قوله تعالى: (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ)) ووجه الاحتجاج به أنه جعل التأسي بالنبي من لوازم رجاء الله تعالى واليوم الآخر، ويلزم من عدم التأسي عدم الملزوم، وهو الرجاء لله واليوم الآخر، وذلك كفر. فكان ذلك قرينة دالة على وجوب التأسي.
وأما إجماع الصحابة فهو أن الصحابة كانوا مجمعين على الرجوع إلى أفعاله، كرجوعهم إلى تقبيله عليه الصلاة والسلام الحجر الأسود، وجواز تقبيله وهو صائم، إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى.
متى يكون التأسي بالرسول
فهذه الأدلة كلها كافية للدلالة على وجوب التأسي؛ ولهذا فإن التأسي واجب. والتأسي هنا هو الإتيان بمثل فعله . فإن التأسي في الفعل هو أن تفعل مثل فعله، على وجهه، من أجل فعله. فكلمة مثل فعله قيد؛ لأنه لا تأسي مع اختلاف صورة الفعل. وكلمة على وجهه قيد ثان، فإن معناه المشاركة في غرض ذلك الفعل ونيته؛ لأنه لا تأسي مع اختلاف الفعلين، في كون أحدهما واجباً، والآخر ليس بواجب، وإن اتحدت الصورة. وكلمة من أجل فعله قيد ثالث؛ لأنه لو اتفق فعل شخصين في الصورة والصفة، ولم يكن أحدهما من أجل الآخر، كاتفاق جماعة في صلاة الظهر مثلاً، أو صوم رمضان اتباعاً لأمر الله تعالى، فإنه لا يقال يتأسى البعض بالبعض. وعلى هذا لو وقع فعله في مكان أو زمان مخصوص، فلا مدخل له في المتابعة والتأسي، وسواء تكرر أم لم يتكرر، إلا أن يدل الدليل على اختصاص العبادة بذلك المكان أو الزمان، كاختصاص الحج بعرفات، واختصاص الصلاة بأوقاتها، واختصاص صوم رمضان. هذا هو التأسي. ومن هنا لو أن الرسول فعل فعلاً على أنه مندوب، وفعلناه نحن على أنه واجب، لم يكن فعلنا تأسياً، بل كان مخالفة لأمر الرسول فكان حراماً، فالتأسي هو أن نفعل مثل فعله على وجهه، من أجل فعله. فلا بد من تحقق هذه القيود الثلاثة في الفعل حتى يكون تأسياً.
التأسي في فعل الرسول هو أن تفعل مثل فعله ، على وجه الفعل من حيث الحكم، من أجل فعله .