طباعة
المجموعة: الخليفة 24-41

المادة 37:   الخليفة مقيد في التبني بالأحكام الشرعية فيحرم عليه أن يتبنى حكماً لم يستنبط استنباطاً صحيحاً من الأدلة الشرعية، وهو مقيد بما تبناه من أحكام، وبما التزمه من طريقة استنباط، فلا يجوز له أن يتبنى حكماً استنبط حسب طريقة تناقض الطريقة التي تبناها، ولا أن يعطي أمراً يناقض الأحكام التي تبناها.

 وفيها أمران اثنان:

أحدهما تقيد الخليفة في التبني للأحكام بالأحكام الشرعية، أي تقيده بالتشريع وسن القوانين بالشريعة الإسلامية، فلا يجوز له أن يتبنى من خلافها لأن خلافها أحكام كفر. فإن تبنى حكماً من غيرها وهو يعرف أنه تبنى من غير الشريعة الإسلامية فإنه ينطبق عليه قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة 44] فإن اعتقد بالحكم الذي تبناه فقد كفر وارتد عن الإسلام، وإن لم يعتقد به ولكن أخذه على اعتبار أنه لا يخالف الإسلام كما كان يفعل خلفاء بني عثمان في أواخر أيامهم فإنه يحرم عليه ذلك ولا يكفر، وأما إن كانت له شبهة الدليل كمن يشرع حكماً ليس له دليل لمصلحة رآها هو، واستند إلى قاعدة المصالح المرسلة، أو قاعدة سد الذرائع، أو مآلات الأفعال، أو ما شاكل ذلك فإنه إن كان يرى أن هذه قواعد شرعية وأدلة شرعية فلا يحرم عليه ولا يكفر ولكنه مخطئ ويعتبر ما استنبطه حكماً شرعياً في نظر جميع المسلمين، وتجب طاعته إن تبناه الخليفة لأنه حكم شرعي وله شبهة الدليل، وإن كان مخطئاً في الدليل، لأنه كالمخطئ في الاستنباط من الدليل. وعلى أي حال يجب على الخليفة أن يتقيد في التبني بالشريعة الإسلامية، وأن يتقيد بالتبني فيها بالأحكام الشرعية المستنبطة استنباطاً صحيحاً من الأدلة الشرعية. والدليل على ذلك:

  1. ما فرضه الله على كل مسلم خليفة كان أو غير خليفة بأن يسيّر جميع أعماله حسب الأحكام الشرعية، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} النساء 65] وتسيير الأعمال بحسب الأحكام الشرعية يحتم عليه أن يتبنى حكماً معيناً حين يتعدد فهم خطاب الشارع، أي حين يتعدد الحكم الشرعي. فصار التبني لحكم معين فيما تعدد من أحكام واجباً على المسلم حين يريد القيام بالعمل، أي حين يريد تطبيق الحكم، فهو واجب على الخليفة حين يقوم بعمله وهو الحكم.
  2. نص البيعة التي يبايع عليها الخليفة تلزمه بالتزام الشريعة الإسلامية، إذ إنها بيعة على العمل بالكتاب والسنة، فلا يحل له أن يخرج عنهما، بـل يكـفـر إن خـرج عنهما معـتـقـداً، ويكون عاصياً إذا خرج عنهما غير معتقد.
  3. أن الخليفة منـصـوب لتنفيذ الشرع فلا يحل له أن يأخذ من غير الشرع لينفذه على المسلمين، لأن الشرع نهى عن ذلك بشكل جازم وصـل إلى درجـة نفي الإيمان عن تحكيم غير الإسلام، وهو قرينة على الجزم. فمعناه أن الخليفة مقيد في تبنيه الأحكام، أي في سنه القوانين بالأحكام الشرعية وحدها، فإذا سن قوانين من غيرها كفر إن اعتقد به وكان عاصياً إن لم يعتقد به.

فهذه الأدلة الثلاثة أدلة الأمر الأول الذي في هذه المادة،

أما الأمر الثاني الذي فيها فهو أن الخليفة مقيد بما تبناه من أحكام، وبما التزمه من طريقة استنباط، والدليل على ذلك هو أن الحكم الشرعي الذي ينفذه الخليفة هو الحكم الشرعي في حقه هو، لا في حق غيره، أي الحكم الشرعي الذي تبناه ليسير أعماله بحسبه وليس أي حكم شرعي. فإذا استنبط الخليفة حكماً، أو قلد في حكم، كان هذا الحكم الشرعي هو حكم الله في حقه، وكان مقيداً في تبنيه للمسلمين بهذا الحكم الشرعي ولا يحل له أن يتبنى خلافه لأنه لا يعتبر حكم الله في حقه فلا يكون حكماً شرعياً بالنسبة له وبالتالي لا يكون حكماً شرعياً بالنسبة للمسلمين ولذلك كان مقيداً في أوامره التي يصدرها للرعية بهذا الحكم الشرعي الذي تبناه، ولا يحل له أن يصـدر أمـراً على خـلاف مـا تبنى من أحكام، لأنه لا يعتبر ذلك الأمر الذي أصدره حكم الله في حـقـه، فلا يكون حكماً شرعياً بالنسبة له، وبالتالي لا يكون حكماً شرعياً بالنسبة للمسلمين، فيكون كأنه أصدر أمراً على غير الحكم الشرعي. ومن هنا كان لا يجوز له أن يصدر أمراً خلاف ما تبناه من أحكام.

وأيضاً فإن طريقة الاستنباط يتغير بحسبها فهم الحكم الشرعي، فإذا كان الخليفة يرى أن علة الحكم تعتبر علة شرعية إذا أخذت من نص شرعي، ولا يرى أن المصلحة علة شرعية، ولا يرى أن المصالح المرسلة دليل شرعي. إذا رأى ذلك فقد عين لنفسه طريقة الاستنباط، وحينئذ يجب أن يتقيد بها، فلا يصح أن يتبنى حكماً دليله المصالح المرسلة، أو يأخذ قياساً على علة لم تؤخذ من نص شرعي، لأن هذا الحكم لا يعتبر حكماً شرعياً في حقه، لأنه يرى أن دليله ليس دليلاً شرعياً، فهو إذن لم يكن في نظره حكماً شرعياً. وما دام لا يعتبر حكماً شرعياً في حق الخليفة فهو ليس حكماً شرعياً في حق المسلمين. فيكون كأنه تبنى حكماً من غير الأحكام الشرعية، فيحرم عليه ذلك. وإذا كان الخليفة مقلداً، أو مجتهد مسألة. وليس مجتهداً مطلقاً، أو مجتهد مذهب وليس له طريقة معينة في الاستنباط، فإنه يسير في تبنيه حسب المجتهد الذي قلده، أو حسب اجتهاده هو في المسألة، مادام له دليل أو شُبهة الدليل. وفي هذه الحالة، يكون فقط مُقيّداً فيما يصدره مِنْ أوامر، بأن لا يصدرها إلا وفق ما تبناه مِنْ أحكام.