طباعة
المجموعة: السياسة الخارجية 181-191

دستور دولة الخلافة ... على منهاج النبوة ... خير دولة لخير أمة ... رحمة للعالمين، المادة 189: علاقة الدولة بغيرها من الدول القائمة في العالم تقوم على اعتبارات أربعة:

 

إن هذه المادة مأخوذة من أحكام دار الإسلام ودار الكفر ومن أحكام المعاهد والمستأمن:

وعليه فإنه يطلق على بلد جل أهلها نصارى مثلاً ولكنها واقعة ضمن الدولة الإسلامية يطلق عليها دار إسلام؛ لأن الأحكام المطبقة أحكام الإسلام، وأمان البلد بأمان الإسلام، ما دامت ضمن الدولة الإسلامية.

وكذلك بالنسبة لبلد معظم أهلها مسلمون ولكنها تقع ضمن دولة لا تحكم بالإسلام ولا تحفظ أمنها بجيش المسلمين بل بجيش الكفار، فإنه يطلق على هذه البلد دار كفر مع أن معظم أهلها مسلمون. فمعنى الدار هنا هو حقيقة شرعية ولا اعتبار لكثرة المسلمين أو قلتهم عند إطلاق لفظ الدار، بل الاعتبار للأحكام المطبقة وللأمان المتحقق لأهلها. أي أن معنى الدار يؤخذ من النصوص الشرعية التي بينت هذا المعنى، تماماً كما يؤخذ معنى الصلاة من النصوص الشرعية التي بينت معناها. وهكذا كل الحقائق الشرعية يؤخذ معناها من النصوص الشرعية وليس من المعنى اللغوي للألفاظ.

ولدار الكفر أحكام تختلف كل الاختلاف عن أحكام دار الإسلام. فلها أي لدار الكفر أحكام خاصة بها:

1- من كان قادراً على الهجرة، ولم يستطع إظهار دينه في بلده، ولا القيام بأحكام الإسلام المطلوبة منه، فإن الهجرة إلى دار الإسلام فرض عليه، ويحرم عليه في هذه الحالة الاستيطان في دار الحرب أي دار الكفر، بل يجب عليه الهجرة إلى دار الإسلام، ودليل ذلك الآية السابقة((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) )) [النساء 97] فهي تصلح للاستدلال هنا كذلك. وأيضاً يدل على ذلك ما رواه الترمذي من طريق جرير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِمَ؟ قَالَ: لا تَرَايَا نَارَاهُمَ». وفي رواية أبي داود «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ؟ قَالَ: لا تَرَاءَى نَارَاهُمَا». وروى نحوه النسائي، ومعنى لا تراءى ناراهم أي لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت... كناية عن عدم العيش في دارهم.  

وأما ما روى البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ» وقوله: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» وقوله: «قَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» وما رُوي أن صفوان بن أمية لما أسلم قيل له: لا دين لمن لم يهاجر، فأتى المدينة، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا جَاءَ بِكَ أَبَا وَهْبٍ؟ قَالَ: قِيلَ إِنَّهُ لاَ دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، قَالَ: ارْجِعْ أَبَا وَهْبٍ إِلَى أَبَاطِحِ مَكَّةَ، فَقَرُّوا عَلَى مَسْكَنِكُمْ فَقَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، فَإِنْ اسْـتُـنْـفِرْتـُـمْ فَانْفِرُوا» رواه ابن عساكر. فإن ذلك كله نفي للهجرة بعد فتح مكة. إلا أن هذا النفي معلل بعلة شرعية تستنبط من الحديث نفسه، إذ قوله: «بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ» جاء على وجه يتضمن العلية، فهو يعني أن فتح مكة هو علة نفي الهجرة. وهذا يعني أن هذه العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً ولا تختص بمكة بل فتح أي بلد، بدليل الرواية الأخرى: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ». ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن عائشة، وسئلت عن الهجرة فقالت: «لاَ هِجْرَةَ الْيَوْمَ، كَانَ الْمُؤْمِنُ يَفِرُّ بِدِينِهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ. فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللهُ الإِسْلامَ، وَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ» مما يدل على أن الهجرة كانت من المسلم قبل الفتح فراراً بدينه مخافة أن يفتن، ونفيت بعد الفتح لأنه صار قادراً على إظهار دينه والقيام بأحكام الإسلام. فيكون الفتح الذي يترتب عليه ذلك هو علة نفي الهجرة وليس فتح مكة وحدها. وعليه فإن ذلك يراد به لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح. وقوله عليه الصلاة والسلام لصفوان قد انقطعت يعني من مكة بعد أن فتحت؛ لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار ومن دار الكفر، فإذا فتح البلد وصار دار إسلام لم يبق بلد الكفار ولا دار كفر فلا تبقى فيه هجرة، وكذلك كل بلد فتح لا يبقى منه هجرة. ويؤيد ذلك ما روى أحمد من طريق معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا تُقُبِّلَتْ التَّوْبَةُ، وَلا تَزَالُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ الْمَغْرِبِ» وروى أحمد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إِنَّ الْهِجْرَةَ لا تَنْقَطِعُ مَا كَانَ الْجِهَادُ» وفي رواية أخرى عنه «لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ» فدل ذلك على أن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام باقية لم تنقطع.

2- ومن كان قادراً على الهجرة، ولكنه يستطيع إظهار دينه في بلده، والقيام بأحكام الشرع المطلوبة منه، فإن الهجرة في هذه الحال مندوبة وليست فرضاً... ودليل ذلك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يُرغِّب في الهجرة من مكة قبل الفتح حيث كانت دار كفر، وقد جاءت آيات صريحة في ذلك ومنها قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [البقرة 218] وقوله سبحانه: ((آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)) [التوبة 20]،، وهذا كله صريح في طلب الهجرة. وأما كونها ليست فرضاً فلأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد أقر من بقي في مكة من المسلمين. فقد رُوي أن نُعيم النحَّام حين أراد أن يهاجر جاءه قومه بنو عدي فقالوا له: أقم عندنا وأنت على دينك، ونحن نمنعك عمن يريد أذاك، واكفنا ما كنت تكفينا. وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم فتخلف عن الهجرة مدة ثم هاجر بعد، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «قَوْمُكَ كَانُوا خَيْراً لَكَ مِنْ قَوْمِي لِي، قَوْمِي أَخْرَجُونِي وَأَرَادُوا قَتْلِي، وَقَوْمُكَ حَفِظُوكَ وَمَنَعُوكَ» ذكره ابن حجر في الإصابة.

3- أما الذي لم يقدر عليها، فإن الله عفا عنه، وهو غير مطالب بها، وذلك لعجزه عن الهجرة، إما لمرض أو إكراه على الإقامة، وإما لضعف كالنساء والولدان وشبههم، ودليل ذلك قوله تعالى: ((إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98))).

4- وأما الذي يستطيع إظهار دينه في بلده والقيام بأحكام الشرع المطلوبة، وفي الوقت نفسه يملك القدرة على تحويل دار الكفر التي يسكنها إلى دار إسلام، فإنه يحرم عليه في هذه الحالة أن يهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام، سواء أكان يملك القدرة بذاته أم بتكتله مع المسلمين الذين في بلاده، أم بالاستعانة بمسلمين من خارج بلاده، أم بالتعاون مع الدولة الإسلامية، أم بأية وسيلة مشروعة من الوسائل، فإنه يجب عليه أن يعمل لجعل دار الكفر دار إسلام، وتحرم عليه حينئذ الهجرة منها، ودليل ذلك أن العمل لضم بلده إلى دار الإسلام هو فرض وأي فرض، فإذا لم يؤده وهو قادر على أدائه، فترك العمل للضم، وهاجر، فقد أثم كترك أي فرض.

وعليه فإنه إن كانت هناك دار إسلام، فإن الاستيطان في دار الكفر لمن وجبت عليه الهجرة هو حرام. وفوق ذلك فإن الاستيطان في دار الكفر يجعل المسلم من أهل دار الكفر، فتطبق عليه أحكام دار الكفر من حيث العلاقات بالدولة الإسلامية، ومن حيث العلاقات بغيره من الأفراد. فلا يقام عليه الحد، ولا تستوفى منه الزكاة، ولا يرث غيره ممن هو في دار الإسلام، ولا تجب له النفقة على من هو في دار الإسلام ممن تجب عليه له لو كان في دار الإسلام، لأن أهل دار الكفر لا تطبق عليهم أحكام الشرع، فليس لهم ما للمسلمين وليس عليهم ما على المسلمين فلا تشملهم الأحكام. والدليل على ذلك هو أن المسلمين لا يطلبون ممن في دار الكفر الإسلامَ فحسب، بل كذلك أن يدخلوا تحت سلطان الإسلام. فقد روى سليمان بن بريدة عن أبيه قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْراً، ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيداً، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ أَوْ خِلالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ...» رواه مسلم، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ» رواه مسلم، فهذا نص يشترط التحول ليكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا، أي لتشملهم الأحكام. فإن قوله: «وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ» مفهومه أنهم إن لم يفعلوا ذلك فليس لهم ما للمهاجرين وليس عليهم ما على المهاجرين. لأن حصول الجزاء معلق على حصول الشرط، فإذا لم يحصل الشرط لا يحصل الجزاء. فإن لم يتحولوا لم يكن لهم ما للمسلمين في دار الإسلام. ثم إن قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ» هذا من ناحية عدم قتلهم وعدم أخذ أموالهم غنائم لا من ناحية الأحكام. إذ إن موضوع الأحكام الشرط السابق صريح فيها. وقد زاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مسألة المال إيضاحاً فقال في الحديث نفسه: «وَلا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ» فاعتبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم امتناعهم عن التحول مسقطاً لحقهم في الفيء والغنيمة، وتقاس على الفيء والغنيمة سائر الأموال، أي سقطت حقوقهم المتعلقة بالمال. فيكون من لا يتحول إلى دار المهاجرين من حيث حكم المال كغير المسلمين من حيث حرمانه من حقوقه فيه أي الحقوق المالية، فليس له ما للمسلمين وليس عليه ما على المسلمين، وهذا يعني عدم تطبيق الأحكام المالية عليه لأنه لم يتحول إلى دار المهاجرين. فهذا تأكيد للحقوق المالية وإن كانت جميع الأحكام لا تطبق عليه لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ». ثم إن دار المهاجرين (المدينة في ذلك الوقت) كانت هي وحدها دار إسلام، وما عداها كان دار حرب أي دار كفر، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يغزو كل بلد غير دار المهاجرين باعتبارها دار حرب، بدليل ما روي عن أنس قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ بَعْدَ مَا يُصْبِحُ» رواه البخاري. وما روي عن عصام المزني قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث سرية يقول: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَسْجِدًا أَوْ سَمِعْتُمْ مُنَادِيًا فَلا تَقْتُلُوا أَحَدًا» رواه الخمسة إلا ابن ماجة وقال الترمذي حسن غريب، فإن هذين الحديثين يدلان على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يعتبر غير دار المهاجرين دار حرب، أي دار كفر ولو كان يسكنها مسلمون، وحكمها حكم دار الكفر. ولا يفرق فيها بين المسلمين وغير المسلمين إلا بأن المسلمين لا يقاتلون ولا يقتلون ولا تؤخذ أموالهم غنائم، وغير المسلمين يقاتلون ويقتلون وتؤخذ أموالهم غنائم، وما عدا ذلك فالحكم سواء. فكل بلاد غير دار الإسلام تعتبر دار حرب، وتأخذ أحكام دار الحرب. فهذا كله يدل على أن الحكم للدار، وأن من استوطن دار الحرب أي دار الكفر، سواءٌ أكان مسلماً أم كافراً، مع وجود دار الإسلام يستوطنها، تنطبق عليه أحكام دار الحرب، والمسلم والكافر في ذلك سواء، سوى أن المسلم في حال فتحها عنوة لا يقتل ولا تؤخذ أمواله غنائم، كما أن من استوطن دار الإسلام تنطبق عليه أحكام دار الإسلام، والمسلم والذمي في ذلك سواء. فاختلاف الدار تترتب عليه أحكام. فمن استوطن دار الكفر مسلماً كان أو غير مسلم لا تشمله مطلقاً أحكام الإسلام التي تطبقها الدولة الإسلامية لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حديث سليمان بن بريدة: «أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ» فإن مفهومه أنهم إن لم يفعلوا ذلك، أي لم يتحولوا إلى دار المهاجرين، فليس لهم ما للمهاجرين وليس عليهم ما على المهاجرين، أي لا تشملهم أحكام الإسلام المطبقة في الدولة الإسلامية (دار الإسلام) لأنهم لا يحملون تابعيتها، ولا يشملهم إلا حكمان اثنان هما: عصمة دمهم وعصمة مالهم عند فتح دار الكفر التي يعيشون فيها، وذلك لأنها مستثناة بقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: من طريق عبد الله بن عمر قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» متفق عليه من حديث عمر وأبي هريرة وابن عمر وغيرهم واللفظ لمسلم. وأما من استوطن دار الإسلام مسلماً كان أو ذمياً فتشمله جميع أحكام الإسلام التي تطبقها الدولة في دار الإسلام إلا ما استثناه الشرع لغير المسلمين كعباداتهم..

وهذا الاعتبار للدار من حيث كونها دار كفر أو دار إسلام هو ما يطلق عليه اسم التابعية. فمن كان يستوطن دار الإسلام مسلماً كان أو ذمياً، كان حاملاً للتابعية الإسلامية (تابعية دار الإسلام). فتطبق عليه أحكام الإسلام من قبل الدولة، ومن كان يستوطن دار الكفر مسلماً كان أو كافراً، كان حاملاً لتابعية دار الكفر فلا تطبق عليه أحكام الإسلام من قبل الدولة. ولذلك فإن العبرة بالاستيطان وليس بالإقامة المؤقتة، فلو أن مسلماً يستوطن دار الإسلام وذهب لدار الكفر للتجارة أو للتداوي أو لطلب العلم أو لزيارة أقاربه أو للنـزهة أو لأي غرض وأقام هنالك أشهراً أو سنوات ولكنه كان يحمل التابعية الإسلامية، أي كان يستوطن دار الإسلام وسيرجع إليها، فإنه يعتبر من أهل دار الإسلام، ولو كان ساكناً في دار الكفر. ولو أن مسلماً يستوطن دار الكفر وجاء لدار الإسلام للتجارة أو للتدواي أو لطلب العلم أو لزيارة أقاربه أو للنـزهة أو لأي غرض وأقام في دار الإسلام يوماً أو شهراً أو سنة أو أكثر ولكنه لم يحمل تابعية الدولة الإسلامية بل استمر في حمله تابعيةَ الكفر أي كان يستوطن دار الكفر وسيرجع إليها فإنه يعتبر من أهل دار الكفر فتطبق في حقه أحكام المستأمن فلا يدخل دار الإسلام إلا بأمان أي إلا بإذن من الدولة، فالموضوع ليس الإقامة المؤقتة مهما طالت بل الموضوع الاستيطان أي حمل التابعية.

وعلى هذا فإنه إذا قامت الدولة الإسلامية فوُجدت الخلافة، صارت البلاد التي تحكمها بسلطان المسلمين وبأمان الإسلام دار إسلام، وما عداها ينظر فيه، فإن كان لا يحكم بالإسلام، أو كان أمانه بأمان الكفر، كان دار كفر أي دار حرب، ولو كان جميع أهله مسلمين، وتنطبق عليه أحكام دار الحرب. وأما إن كان يحكم بالإسلام، وأمانه بأمان الإسلام، ولكنه لم ينضم إلى الخلافة، فإنه يكون دار إسلام، وتنطبق عليه أحكام الإسلام. ويكون حكمهم كحكم البغاة تصح عقودهم، ويصح نصبهم للقضاة والولاة، ويصح حكم قضاتهم وولاتهم، ولكن يقاتلون للدخول في بيعة الخليفة، لحديث: «إِذَا بُويِعَ لإمَامَيْنِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا» رواه مسلم عن أبي سعيد، أي قاتلوه. وعلى هذا فمتى قامت الدولة الإسلامية في قطر من أقطار المسلمين كالعراق وتركيا وسورية مثلاً، فإنه يكون حكم المسلم الذي يستوطن إنجلترا أو أميركا أو روسيا أو غيرها من ديار الكفر وبلاد الكفار هو كحكم من يكون في دار الحرب لا فرق بين المسلم والكافر سوى بعصمة  دمه وماله عند فتح تلك البلاد. وأما المسلمون الذين يكونون في بلاد مسلمة فإنهم إن طبقوا الإسلام ولم يدخلوا في الخلافة كانت بلادهم دار إسلام، وحكمهم حكم البغاة. أما إن لم يطبقوا الإسلام فإنها تكون دار كفر. وكذلك كل قطر من بلاد الإسلام إذا ظل غير مطبق للإسلام، أو كان أمانه الخارجي بغير أمان المسلمين، فإنه يعتبر دار كفر، وتطبق في حقه أحكام دار الحرب، ولو كان جميع أهله مسلمين. ولا فرق بين أن يكون مجاوراً للدولة الإسلامية، أي للبلاد التي يحكمها خليفة المسلمين، أو كان غير مجاور لها. فالدولة الإسلامية تعتبر جميع البلاد الإسلامية التي كانت تحكم بالإسلام، أو كانت أكثريتها من المسلمين، بلاداً إسلامية واحدة يجب أن تُضم للدولة الإسلامية، وأن تخضع للراية الإسلامية، وأن تكون في عنقها بيعة للخليفة.

وكلمة أمان الإسلام المراد منها أن يأمن بسلطان الإسلام، وكلمة أمان الكفر المراد منها أن يأمن بسلطان الكفر. قال في القاموس المحيط: (الأمن والآمن كصاحب ضد الخوف أمن كفرح أمناً وأماناً بفتحهما) وأخرج أبو داود عن سعد قال: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم النَّاسَ إِلاَّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَسَمَّاهُمْ» وعن أبي بن كعب «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ قَالَ رَجُلٌ لا يُعْرَفُ: لا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَمِنَ الأَسْوَدُ وَالأَبْيَضُ إِلا فُلانًا وَفُلانًا نَاسًا سَمَّاهُمْ» أخرجه أحمد في المسند بإسناد حسن، وأخرج نحوه الحاكم في مستدركه وابن حبان في صحيحه، كلاهما عن أبي ابن كعب رضي الله عنه. فهذا هو معنى الأمان. وإضافته إلى الإسلام أو إلى الكفر إنما هي إضافة إلى السلطان الذي يؤمن، لأن الأمان في الدولة إنما هو للسلطان. فأمان الإسلام هو الأمان بسلطان المسلمين، وأمان الكفر هو الأمان بسلطان الكفار.

والأمان الداخلي هو أن يأمن كل واحد من الرعية على عرضه ودمه وماله بأمان السلطان، وأما الأمان الخارجي فهو أن تكون الدولة حامية حدودها من الغارة عليها بسلطانها هي لا بسلطان غيرها.

وأما البند الثاني من المادة فإن دليله أن الإسلام أجاز عقد المعاهدات مع الدول قال تعالى: ((ِإلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ )) [النساء 90] وقال: ((وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ))  [النساء 92] وقال: ((وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ)) [الأنفال 72] والميثاق في هذه الآيات هو المعاهدة. والرسول صلى الله عليه وآله وسلم عقد معاهدة مع يوحنة بن رؤبة صاحب أيلة، وعقد معاهدة مع بني ضمرة. وتطبق في هذه المعاهدات الشروط التي تتضمنها ويجب أن يتقيد المسلمون بهذه الشروط لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح، على أن لا يكون هذا الشرط مناقضاً للإسلام، فإن كان مناقضاً للإسلام رفض لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الترمذي: «إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ» متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها، فيقوم المسلمون بتنفيذ هذه الشروط حسب ما وردت في نصوص المعاهدات إن كانت لا تخالف الإسلام. فدليل هذه الفقرة هو دليل جواز المعاهدات، ودليل وجوب الوفاء بالشروط.

وتعتبر هذه الدول دولاً محاربة حكماً، وذلك لأن كونهم كفاراً لم يخضعوا لسلطان الإسلام، فإنهم يعتبرون محاربين، لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ» فهو عام، وكونهم يعتبرون محاربين حكماً، أي بالنسبة للأحكام، فإنه بسبب المعاهدات التي بيننا وبينهم.       

وأما أن هذه الدول تعتبر محاربة حكماً فلأنهم يدخلون تحت قوله صلى الله عليه وآله وسلم «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ» حيث إنهم كفار، وأما اعتبارهم محاربين حكماً لا فعلاً؛ فلأنه لا يجري قتال فعلي بيننا وبينهم، ولأنه لم تعلن بيننا وبينهم حالة الحرب الفعلية لا من قبلنا ولا من قبلهم. وأما إذا أصبحت هذه الدول، كلها أو بعضها في حالة حرب فعلاً، أي اعتدت على بلاد المسلمين، فإنها تعامل معاملة الحرب الفعلية في البند الرابع، ولذلك فإن أمريكا وبريطانيا بعد عدوانهما على العراق وأفغانستان وكذلك أية دولة أخرى تعلن الحرب على أي بلد من بلاد المسلمين فإنها تصبح محاربة فعلاً، وتطبق عليها أحكام الحرب الفعلية ما دامت حالة الحرب هذه قائمةً بيننا وبينهم.

وغير ذلك من أحكام القتال وأحكام المعركة وسائر أدلة دار الحرب وأدلة المعركة.

ولا يجـوز الصـلح الدائم مع هذه الدول المحاربة فعلاً، أي وقف القتال الدائم أو الهدنة الدائمية لأن هذا يُعطل الجهاد، وهو ماض إلى يوم القيامة، كما أن الهدنة الدائمية تمنع نشر الإسلام حتى يظهره الله سبحانه على الدين كله. يقول الله سبحانه ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)) [الأنفال 39]، ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ» أخرجه أبو داود من طريق أنس رضي الله عنه.

أما عن الصلح المؤقت مع هذه الدول، والوقف المؤقت لحالة الحرب، فإنه ينظر:

وهكذا فإن أي صلح مع دولة يهود ولو على شبر من الأرض هو حرام شرعاً لأنها مغتصبة ومعتدية، وكيانها قائمٌ كله على أرض المسلمين، والصلح معها هو تنازل لها عن أرض إسلامية، وتمكينها من تملكها ومن السيطرة على المسلمين فيها، وهذا لا يجوز شرعاً. والإسلام يحتم على المسلمين جميعاً محاربتها، فتنفر جيوشهم للقتال، وتجمع القادرين جنوداً فيها، ويستمر ذلك حتى القضاء على دولة يهود واستنقاذ بلاد المسلمين منها، قال تعالى: ((وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) ))[النساء]، وقال سبحانه: ((فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)) [البقرة 194]، وقال تعالى: ((وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُم))ْ [البقرة 191].