الجدل هو التحاور، كما في قوله تعالى: ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) (المجادلة). فسمى الله الجدل تحاوراً. وحدّه: إدلاء كل من المختلفين بحجته أو بما يظن أنه حجة. والغرض منه نصرة رأيه أو مذهبه، وإبطال حجة خصمه ونقله إلى ما يراه صواباً أو حقاً.

الجدل المحمود والجدل المذموم

والجدل منه المطلوب شرعاً لتحقيق الحق، وإبطال الباطل، ودليله قوله تعالى: ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل). وقوله: ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة). ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جادل مشركي مكة، ونصارى نجران، ويهود المدينة. وحامل الدعوة يدعو إلى الخير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويصارع الأفكار المضللة، وحيثما تعين الجدل أسلوباً لواجب من هذه الأعمال، صار الجدل واجباً، من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ومن الجدل ما هو مذموم شرعاً فيكون كفراً كالجدل في الله وآياته: ( وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)(الرعد). ( مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا)(غافر). ( الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا) (غافر).(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (الشورى). والذي يكفر هو المنكر لا المثبت، لأن المنكر يجادل ليدحض الحق، والمثبت يجادل لإحقاق الحق وإزهاق الباطل: ( وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)(غافر). ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)(الزخرف). والجدال في القران لإثبات أنه غير معجز، أو أنه ليس من عند الله كفر أيضاً، أخرج أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً: «جدال في القرآن كفر» قال ابن مفلح إسناده جيد، وصححه أحمد شاكر. وقد يكون الجدل مكروهاً، كالجدال في الحق بعد ظهوره ( يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (الأنفال).

الجدل والدليل

والجدل إما أن يكون بحجة أي دليل، أو بشبهة دليل، أما الجدال بدونهما فهو شغب وتخليط، وقد عرفت الشبهة بأنها (ما تُخيِّل به المذهب في صورة الحقيقة وليس كذلك) وهذا تعريف ابن عقيل، وعرف ابن حزم الشغب بأنه (تمويه بحجة باطلة بقضية أو قضايا فاسدة تقود إلى الباطل، وهي السفسطة). قال ابن عقيل: (ومن أحب سلوك طريقة أهل العلم فإنما يتكلم على حجة أو شبهة، فأما الشغب فإنما هو تخليط أهل الجدل). ويمكن القول إن الشغب هو الجدل بدون دليل أو شبهة دليل.

ومما أوصى به علماء المسلمين في قوانين الجدل وآدابه بتصرف مع بعض الزيادات:

  • * أن يقدم تقوى الله، ويقصد التقرب إليه، ويبتغي مرضاته بامتثال أمره.
  • * أن ينوي إحقاق الحق وإبطال الباطل، دون المغالبة والقهر والظفر بالخصم. قال الشافعي: (ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، وتكون عليه من الله رعاية وحفظ، وما كلمت أحداً قط إلا ولم أُبالِ، بيّن الله الحق على لساني أو لسانه). وقال ابن عقيل: (كل جدل لم يكن الغرض فيه نصرة الحق فإنه وبال على صاحبه).
  • * أن لا يقصد المباهاة وطلب الجاه والتكسب والمماراة والرياء.
  • * أن ينوي النصيحة لله ولدينه ولخصمه لأن الدين النصيحة.
  • * أن يبتدئ بحمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم .
  • * أن يرغب إلى الله في التوفيق لما يرضيه.
  • * أن تكون طريقته في الجدل صالحة، وهيئته ومنظره صالحاً، فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الهدي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد، جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة» رواه أحمد وأبو داود وقال ابن حجر في الفتح إسناده حسن. وعن ابن مسعود موقوفاً قال: «اعلموا أن حسن الهدي، في آخر الزمان، خير من بعض العمل». قال ابن حجر في الفتح سنده صحيح. والهدي هو الطريقة، والسمت هو المنظر والهيئة، والاقتصاد هو الاعتدال.
  • * الإجمال في الخطاب بحيث يكون كلامه يسيراً جامعاً بليغاً، فالإكثار من الكلام يورث الملل، فوق أنه مظنة السقط والخلل والخطأ.
  • * أن يتفق مع خصمه على أصل يرجعان إليه، وهو مع الكافر لا يكون إلا عقلياً، أما مع المسلم فالأصل إما العقل وإما النقل، فالعقل هو المرجع في العقليات وأما في الشرعيات فالنقل هو الأصل، لقوله تعالى: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء 59) أي إلى الكتاب والسنة.
  • * الكافر لا يجادل في فروع الشريعة؛ لأنه لا يؤمن بأصلها، فلا يجادل ولا يناظر في الزواج من أربع، ولا في شهادة المرأة، ولا في الجزية، ولا في المواريث، ولا في تحريم الخمر، ولا غيرها، ويقتصر معه في التحاور على أصول الدين التي أدلتها عقلية، لأن الغرض من الجدل هو نقله من الباطل إلى الحق، ومن الضلال إلى الهدى، ولا يكون ذلك إلا بنقله من الكفر إلى الإيمان. كما لا يناظر النصراني ببطلان البوذية أو اليهودية، بل إن الكلام معه، في هذا وأشباهه، لا يعتبر جدلاً، فالنصراني ليس بوذياً ولا يهودياً حتى تنقله منهما إلى الحق، وإنما يكون الكلام معه في عقيدته الباطلة، لنقله منها إلى الإسلام. ولذلك لا يقال نتحاور فيما اتفقنا عليه، ونترك ما اختلفنا فيه، لأننا مأمورون بجدالهم، والجدال لا يكون إلا فيما اختلفنا فيه، أما لو اتفق النصراني أو الرأسمالي مع المسلم على أن البوذية أو الشيوعية أو الاشتراكية مستقبحة عقلاً، وتكلما حولها، فإن هذا الكلام لا يسمى تحاوراً ولا جدلاً، وهو لا يبرئ ذمة المسلم من وجوب محاورته وجداله حتى ينقله إلى الإسلام، وكذلك لا يقال نتحاور مع الكفار فيما اتفقنا عليه، ونذر ما اختلفنا فيه إلى يوم القيامة، فيحكم الله ما يشاء عندئذ ويفصل بيننا، لا يقال هذا بمعنى أنه يغني عن جدالهم، لأننا مأمورون بجدالهم فيما اختلفنا فيه، وإن لم نفعل نكن مقصرين. نعم إن الحكم لله في الدنيا والآخرة، لكن لا يجوز أن نخلط بين ما هو من فعل الله سبحانه وبين ما كلفنا به، فهذه حجة المقصر، بل شغب المقصر الذي لا دليل عنده ولا شبهة.
  • * أن لا يرفع صوته إلا بالقدر الذي يلزم لإسماع من عنده، وأن لا يصيح في وجه خصمه. حكي أن رجلاً من بني هاشم اسمه عبد الصمد، تكلم عند المأمون، فرفع صوته، فقال المأمون: لا ترفع صوتك يا عبد الصمد، إن الصواب في الأسدّ لا الأشدّ. والخطيب في الفقيه والمتفقه.
  • * أن لا يستحقر خصمه ويستصغر شأنه.
  • * أن يصبر على شغب الخصم، ويحلم عنه، ويغفر زَلَلَهُ، إلا أن يكون سفيهاً، فيترفع عن جداله ومشاغبته.
  • * أن يتجنب الحدة والضجر. قال ابن سيرين: الحدة كنية الجهل. يعني في الجدل. وأما ما رواه الطبراني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تعتري الحدة خيار أمتي» ففيه سلام بن مسلم الطويل وهو متروك. وما رواه الطبراني عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :«خيار أمتي أحداؤهم الذين إذا غضبوا رجعوا» ففيه نعيم بن سالم بن قنبر وهو كذاب.
  • * إذا جادل من هو أعلم منه فلا يقول: أخطأت، أو كلامك غلط، وإنما يقول: أرأيت لو قال قائل أو اعترض معترض فقال، أو أن يعترض بصيغة المسترشد، كأن يقول أليس الصواب أن يقال كذا.
  • * أن يتأمل ما يأتي به الخصم ويفهمه ليتمكن من الرد، وأن لا يعجل بالكلام قبل أن ينهي خصمه كلامه. عن ابن وهب قال: سمعت مالكاً يقول: لا خير في جواب قبل فهم. وليس من الأدب أن يقطع كلام خصمه. أما إذا كان الخصم ممارياً لجوجاً ثرثاراً متشدقاً، فالأصل أن لا يناظره إذا كان يعلم ذلك منه، وإذا اكتشفه أثناء المناظرة نصحه، فإن لم يرعو قطع مكالمته.
  • * أن يقبل بوجهه على خصمه، وأن لا يلتفت إلى الحاضرين استخفافاً بحق مناظره، سواء خالفوه أم وافقوه، فإن فعل الخصم ذلك نصحه، فإن لم يقلع قطع المناظرة.
  • * أن لا يناظر متعنتاً معجباً برأيه، فإن المعجب لا يقبل من أحد قولاً.
  • * أن لا يناظر في مجالس الخوف، كالمناظرة على القنوات الفضائية والمجالس العامة، إلا أن يكون مطمئناً لدينه لا يخشى في الله لومة لائم، مستعداً لتحمل تبعة ما يقول من سجن أو حتى قتل، أو في مجلس أمير أو صاحب سلطان يخشى منه على نفسه، فإن لم يكن قد وطّن نفسه على أن يكون مع حمزة، وإلا فالسكوت أولى به، لأنه حينئذ يزري بالدين والعلم، وهنا يذكر موقف أحمد ومالك من القدماء، وموقف الذين ناظروا القذافي عندما أنكر السنة من المعاصرين.
  • * أن لا يناظر من يبغضه، سواء أكان البغض منه أم من خصمه.
  • * أن لا يتقصد الارتفاع على خصمه في المجلس.
  • * أن لا يتوسع في الكلام خاصة في أمور معروفة عند الخصم، بل يقصد بعبارة مختصرة غير مخلة بالمقصود إلى نكتة الحكم، أي موضوع المناظرة.
  • * أن لا يناظر من يستخف بالعلم وأهله، أو بحضرة سفهاء يستخفون بالمناظرة والمتناظرين. قال مالك: ذل وإهانة للعلم، إذا تكلم الرجل بالعلم عند من لا يطيعه.
  • * أن لا يأنف من قبول الحق إذا ظهر على لسان خصمه، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وحتى يكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
  • * أن لا يغالط الجواب، وذلك بأن يجيب بجواب غير مطابق للسؤال مثل:

            السائل: هل السعودية دولة إسلامية؟

            المجيب: القضاء فيها إسلامي.

            فهذه مغالطة وكان الواجب أن يقول: نعم أو لا أو لا أدري، فأي جواب من هذه الثلاثة مطابق.

  • * أن لا يجحد الضرورة فيكون مكابراً، وذلك كمن يجحد عداوة الكفار للمسلمين، أو يحجد أن الأنظمة القائمة في بلاد المسلمين هي أنظمة كفر، أي أنها لا تحكم بالإسلام.
  • * أن لا يقول قولاً مجملاً ثم ينقضه بعد ذلك في التفصيل، كأن يقول في أول كلامه أمريكا عدوة للإسلام والمسلمين، ثم بعد ذلك يقول إن أمريكا تساعد الفلسطينيين في إقامة دولتهم، وتقرير مصيرهم؛ لأنها تحب العدالة والحرية، أو يقول إن أمريكا جاءت إلى العراق لتحريره من الظلم والديكتاتورية.
  • * أن لا يمتنع عن طرد حجته في كل المسائل التي تنطبق عليها، كأن يبيح شراء المساكن في الغرب بربا بناء على أن الحاجة الخاصة تنـزل منـزلة الضرورة الخاصة، ثم لا يبيح الحاجات الأخرى كالمأكل والملبس والزواج بربا، فإن أباحها للحاجة فقد أباح حراماً كثيراً، وإن لم يطرد حجته وقاعدته في كل الحاجات فقد ناقض نفسه.