طباعة
المجموعة: النفسية الإسلامية

حامل الدعوة إما أن يكون في دار الكفر، ويعمل للتغيير وتحويل الدار إلى دار إسلام، كما هو الوضع اليوم ، فقد هدمت الخلافة، وطبقت الأرض إمرة السفهاء، وغيب الإسلام عن حياة المسلمين، وإما أن يكون حامل الدعوة في دار الإسلام، مشتغلاً بالمحاسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معناوالوضع الأول هو المقصود هنا، لأن المسلمين يعيشونه بشكل عام وحملة الدعوة بشكل خاص، وحملة الدعوة للتغيير وضعهم أشبه بوضع المسلمين في مكة، وهم زيادة على ذلك مخاطبون بالأحكام التي نزلت بعد الهجرة، إلا أن البحث سيقتصر على ما قبل الهجرة لتشابه الوضعين:

فقد كان الكفار في مكة يطلبون من المسلمين أن يكفروا ويرجعوا عن الإسلام، وأن يتركوا حمل الدعوة إلى غيرهم، وأن لا يستعلنوا بعبادتهم أمام الجماهير. وهذه المطالب فعلها الحكام الظَّـلَمة وزادوا عليها أن يتعاون حامل الدعوة إما بأن يصبح جاسوساً وإما أن يكون عميلاً فكرياً، يروج الأفكار التي تخدم إمرة السفهاء، وتطيل بقاءهم وبقاء نفوذ الكفار في بلاد المسلمين، فوجد جراء هذا جيوش من الجواسيس والعملاء الفكريين والمفتين حسب الطلب. ومثل هذا المطلب الخبيث لا أعلم أن قريشاً اتبعته.

ولتحقيق المطالب المذكورة، استعمل كفار مكة أساليب متعددة، كالقتل، والتعذيب، والأذى والحبس، والوثاق، والمنع من الهجرة، وأخذ المال، والاستهزاء، والمحاربة في الأرزاق، والمقاطعة، وتشويه السمعة بالإشاعات الكاذبة، وقد استعمل الحكام الظلمة هذه الأساليب، وزادوا عليها، وتفننوا في التعذيب، فاستعملوا المكتشفات الحديثة كالكهرباء بدل استعمالها في الثورة الصناعية.

وقد كانت لرسول الله وأصحابه مواقف يجب التأسي والإقتداء بها على وجهها. وهذا الإجمال يحتاج إلى شيء من التفصيل في المطالب والأساليب والمواقف التي تتخذ إزاءها، فمن الأساليب التي استعملها كفار مكة:

  1. الضرب:     أخرج الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد على شرط مسلم ووافقه في التلخيص عن أنس قال: «لقد ضربوا رسول الله حتى غشي عليه، فقام أبو بكر ، فجعل ينادي ويقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ قالوا: من هذا؟ قالوا: هذا ابن أبي قحافة المجنون». وأخرج مسلم عن أبي ذر في قصة إسلامه قال: «... فأتيت مكة فتضعفت رجلاً منهم، فقلت أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ فأشار إلي فقال: الصابئ، فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشياً علي، قال فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر ...» .
  2. الوثاق:     البخاري عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في مسجد الكوفة يقول: «والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي على الإسلام، قبل أن يسلم عمر، ولو أن أحداً ارفض للذي صنعتم بعثمان لكان»، وفي رواية الحاكم "لموثقي وأمي" وقال صحيح على شرط الشيخيين ووافقه الذهبي.
  3. الضغط من الأم:      ابن حبان في صحيحه عن مصعب بن سعد عن أبيه: ... وقالت أم سعد أليس قد أمر الله بالبرّ، والله لا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً، حتى أموت أو تكفر، قال فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها فنـزلت هذه الآية  وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَـٰنَ بِوَ‌ٰلِدَيْهِ حُسْنًا ؛ وَإِن جَـٰهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَآ  إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
  4. الصهر بالشمس:     عن عبد الله قال: «إن أول من أظهر إسلامه سبعة، رسول الله فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله تعالى بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدراع الحديد، وأوقفوهم في الشمس، فما من أحد إلا قد آتاهم كل ما أرادوا غير بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله عز وجل، وهان على قومه، فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وجعل يقول: أحد أحد»رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في التاريخ. وابن حبان في صحيحه وسمى السبعة وقال «فما منهم أحد إلا وإياهم على ما أرادوا» يعني وعدهم، وقد يكون فيها تصحيف والأصل "واتاهم" أي طاوعهم، لأن المشركين لم يكونوا ليرضوا منهم بالوعد.
  5. التعتيم الإعلامي والمنع من مخاطبة الجماهير:     أخرج البخاري من حديث طويل لعائشة رضي الله عنها قالت: «... فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة مُرْ أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصلّ فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنّة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك، يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكّاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنّة فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك، فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان ...».
  6. الرمي بالحجارة:     أخرج ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما عن طارق المحاربي قال: رأيت رسول الله مرّ في سوق ذي المجاز، وعليه حلة حمراء، وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» ورجل يتبعه يرميه بالحجارة، قد أدمى كعبيه وعرقوبيه، وهو يقول: يا أيها الناس لا تطيعوه فإنه كذاب، فقلت من هذا؟ قالوا: غلام بني عبد المطلب، فقلت من هذا الذي يتبعه يرميه بالحجارة؟ قالوا هذا عبد العزى أبو لهب.
  7. طرح الأذى من فروث وغيرها:     روى البخاري عن عبد الله قال: بينا النبي ساجد، وحوله ناس من قريش، جاء عقبة بن أبي معيط بسلي جزور، فقذفه على ظهر النبي ،فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة عليها السلام، فأخذته من ظهره، ودعت على من صنع، فقال النبي :«اللهم عليك الملأ من قريش أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة ابن ربيعة، وأمية بن خلف، أو أبي بن خلف» شعبة الشاك، فرأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا في بئر غير أمية أو أبي تقطعت أوصاله فلم يلق في البئر. وروى ابن سعد في الطبقات عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله :«كنت بين شر جارين، بين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط، إن كانا ليأتيان بالفروث، فيطرحانها على بابي، حتى إنهم ليأتون ببعض ما يطرحون من الأذى، فيطرحونه على بابي» فيخرج به الرسول فيقول: «يا بني عبد مناف أي جوار هذا؟!» ثم يلقيه بالطريق.
  8. محاولة وطء الرقبة وتعفير الوجه بالتراب:     روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال فقيل نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لأعفرن وجهه في التراب، قال فأتى رسول الله وهو يصلي زعم ليطأ على رقبته، قال فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيده، قال فقيل له مالك؟ فقال إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله :«لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً».
  9. مطلق تعذيب دون ذكر الأسلوب:     روى الذهبي في التاريخ، والبيهقي في الشعب، وابن هشام في السيرة، وأحمد في فضائل الصحابة، عن عروة قال: كان ورقة بن نوفل يمر ببلال وهو يعذب، وهو يقول أحد أحد، فيقول أحد أحد الله يا بلال، ثم يقبل ورقة على أمية بن خلف ومن يصنع ذلك ببلال من بني جمح فيقول: أحلف بالله إن قتلتموه لأتخذنه حناناً، حتى مر به أبو بكر الصديق ابن أبي قحافة يوماً وهم يصنعون به ذلك، وكانت دار أبي بكر في بني جمح، فقال لأمية: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟! قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، قال أبو بكر، أَفعل عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك، أعطيكه به، قال قد قبلت، قال هو لك، فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ بلالاً فأعتقه، ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر من مكة ست رقاب، بلال سابعهم عامر بن فهيرة شهد بدراً وأحداً وقتل يوم بئر معونة شهيداً وأم عبيس وزنيرة ... . وأخرج الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي في التلخيص عن جابر أن النبي مر بعمار وأهله، وهم يعذبون، فقال: «أبشروا آل عمار وآل ياسر فإن موعدكم الجنة». وروى أحمد بإسناد رجاله ثقات عثمان قال: أقبلت مع رسول الله آخذاً بيدي نتمشى في البطحاء حتى أتى على أبيه وأمه وعليه يعذبون فقال أبو عمار: يا رسول الله الدهر هكذا؟ فقال له النبي :«اصبر ثم قال:اللهماغفرلآلياسروقدفعلت».
  10. التجويع:     أخرج ابن حبان في صحيحه عن أنس قال قال رسول الله :«لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاث من بين يوم وليلة وما لي طعام إلا ما واراه إبط بلال». وأخرج ابن حبان أيضاً في صحيحه، والحاكم في المستدرك، وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في التلخيص عن خالد بن عمير العدوي قال: خطبنا عتبة بن غزوان، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ... ولقد رأيتني وإني لسابع سبعة مع رسول الله ،ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، وإني التقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن أبي وقاص فارس الإسلام، فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها، وما أصبح منا اليوم أحد حي إلا أصبح أمير مصر من الأمصار، وإنني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً ... .
  11. المقاطعة:     ابن سعد في الطبقات عن الواقدي ... عن ابن عباس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم دخل حديث بعضهم في حديث بعض: ... وكتبوا كتاباً على بني هاشم ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم ... وقطعوا عنهم الميرة والمادة، فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم حتى بلغهم الجهد، وسمع أصوات صبيانهم من وراء الشعب، فمن قريش من سره ذلك ومنهم من ساءه،... فأقاموا في الشعب ثلاث سنين ... . وذكر الذهبي في التاريخ خبر المقاطعة من طريق موسى بن عقبة عن الزهري.
  12. الاستهزاء والغمز:     ابن هشام في السيرة قال ابن اسحق فحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: لما انتهى رسول الله إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة ... فجلس إليهم رسول الله فدعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك ... وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ... وأخرج ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: ... قد حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم في الحجر فذكروا رسول الله فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا، فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله ،فأقبل يمشي حتى استلم الركن فمر بهم طائفاً بالبيت، فلما أن مر بهم غمزوه ببعض القول، قال وعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى ،فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها ثم قال: «أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح ... ».
  13. ضرب العلاقة بين القيادة والأتباع:     مسلم عن سعد قال: كنا مع النبي ستة نفر، فقال المشركون للنبي : اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل: وَلَا تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ؛ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ؛ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ .
  14. المساومة على المبدأ بالرئاسة والمال والنساء:     أبو يعلى في المسند وابن معين في تاريخه بإسناد رجاله ثقات غير الأجلح وقد وثق عن جابر بن عبد الله قال: قال أبو جهل والملأ من قريش لقد انتشر علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلاً عالماً بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة لقد سمعت قول السحرة والكهانة والشعر، وعلمت من ذلك علماً وما يخفى علي إن كان كذلك، فأتاه فلما أتاه قال له عتبة: يا محمد أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فلم يجبه، قال: فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسنا، وإن كان بك الباه زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك، ورسول الله ساكت لا يتكلم، فلما فرغ قال رسول الله  : بسم الله الرحمن الرحيم. حم (١) تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ (٢) كِتَـٰبٌ فُصِّلَتْ ءَايَـٰتُهُۥ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) حتى بلغ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـٰعِقَةً مِّثْلَ صَـٰعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (١٣) فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم، فقال أبو جهل يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه، فأتوه فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما خشينا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمداً أبداً، وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً، ولكني أتيته، فقص عليهم القصة، فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة قرأ   بسم الله الرحمن الرحيم. حم (١) تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ (٢) كِتَـٰبٌ فُصِّلَتْ ءَايَـٰتُهُۥ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) حتى بلغ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـٰعِقَةً مِّثْلَ صَـٰعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (١٣) فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفت أن ينـزل بكم العذاب. هذه رواية ابن معين وهي غير رواية ابن اسحق عن محمد بن كعب القرظي التي فيها مجهول والمذكورة في سيرة ابن هشام.
  15. السبّ:     البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن عوف قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فيغمزني أحدهما فقال يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت نعم ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا فتعجبت لذلك فغمزني الآخر فقال لي مثلها ... . وأخرج البخاري ومسلم أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا قال نزلت ورسول الله مختف بمكة، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن، ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله لنبيه :وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا أي بقراءتك فيسمع المشـركون فيسـبوا القـرآن وَلَا تُخَافِتْ بِهَا  عـن أصحابك فلا تسـمعهم وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذَ‌ٰلِكَ سَبِيلًا  . وأخرج أحمد في المسند، ورجاله ثقات، عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: «ألم تروا كيف يصرف الله عني لعن قريش وشتمهم، يسبون مذمماً، وأنا محمد». وفي حديث ابن عباس المتفق عليه أيضاً قال: لما نزلت وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ خرجرسول الله حتى صعد الصفا، فهتف يا صباحاه، قالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإنني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا، ثم قام، فنـزلت تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ ». وأخرج الطبراني عن منبت الأزدي قال: «رأيت رسول الله في الجاهلية وهو يقول: يا أيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثا عليه التراب ومنهم من سـبه حتى انتصف النهار. فأقبلت عليه جارية بعس من ماء - أي قدح كبير - فغسل وجهه ويديه وقال: يا بنية لا تخشي على أبيك غيلة ولا ذلة. فقلت من هذه قالوا زينب بنت رسول الله ». قال الهيثمي وفيه منبت بن مدرك ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.
  16. التكذيب:     البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله يقول: «لما كذبتني قريش قمت في الحجر فجلا، (وفي رواية) فجلّى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه». وروى البخاري عن أبي الدرداء قال: ... فقال النبي :«إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت ...». وقد مر في أسلوب الرمي بالحجارة من حديث طارق المحاربي أن أبا لهب كان يقول لرسول الله في سوق ذي المجاز: لا تطيعوه فإنه كذاب ... وهو حديث صححه ابن خزيمة وابن حبان.
  17. الدعاوة المضادة:     أحمد والطبراني بإسناد قال عنه الهيثمي رجاله رجال الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها من حديث طويل قالت: ... فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص والله لآتينه غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم، قالت فقال له عبد الله بن ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل فإن لهم أرحاماً، وإن كانوا قد خالفونا، قال والله لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد، قالت ثم غدا عليه من الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه، قالت فأرسل إليهم ليسألهم عنه، قالت ولم ينـزل بنا مثلها قط، فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا، نقول والله ما قال الله وما جاءنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن ... . وأخرج مسلم عن ابن عباس أن ضماداً قدم مكة، وكان من أزدشنودة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون إن محمداً مجنون ... الحديث. وأخرج ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة أتوه فقالوا: نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيد أهل يثرب، فنحن خير أم هذا الصنيبر المنبتر من قومه؟ يزعم أنه خير منا، فقال أنتم خير منه فنـزل على رسول الله إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلْأَبْتَرُ ونزلت أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ ٱلْكِتَـٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَـٰؤُلَآءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلًا.
  18. المنع من الهجرة:     الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي عن صهيب قال: قال رسول الله :«أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرة، فإما أن تكون هجراً، أو تكون يثرب» قال وخرج رسول الله إلى المدينة، وخرج معه أبو بكر ،وكنت قد هممت بالخروج معه، فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقوم ولا أقعد، فقالوا: قد شغله الله عنكم ببطنه، ولم أكن شاكياً، فقاموا فلحقني منهم ناس بعدما سرت بريداً ليردوني فقلت لهم: هل لكم أن أعطيكم أواقي من ذهب وتخلون سبيلي وتفون لي، فتبعتهم إلى مكة، فقلت لهم احفروا تحت أسكفة الباب، فإن تحتها الأواقي، واذهبوا إلى فلانة فخذا الحليتين. وخرجت حتى قدمت على رسول الله قبل أن يتحول منها يعني قباء، فلما رآني قال: «يا أبا يحيى ربح البيع» ثلاثاً، فقلت يا رسول الله ما سبقني إليك أحد وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام. وقد بلغ بهم الحرص على منع رسول الله من الهجرة مبلغاً جعلهم يعلنون عن جائزة لمن يقتله هو وصاحبه أو يأسرهما، أخرج البخاري عن البراء عن أبي بكر قال: «... فارتحلنا والقوم يطلبوننا ...» وأخرج من حديث سراقة بن جعشم يقول: «جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما من قتله أو أسره ... فقلت له إن قومك قد جعلوا فيك الدية ... قال: فقف مكانك لا تتركن أحداً يلحق بنا قال فكان أول النهار جاهداً على نبي الله وكان آخر النهار مسلحةً له ...».
  19. محاولة القتل أو التهديد به:     البخاري عن عروة بن الزبير قال: «سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله ؟ قال رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم». وأخرج البخاري أيضاً في باب إسلام عمر بن الخطاب عن عبد الله بن عمر قال: «بينما هو في الدار خائفاً إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو، عليه حلة حبرة وقميص مكفوف بحرير، وهو من بني سهم، وهم حلفاؤنا في الجاهلية، فقال له: ما بالك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلوني إن أسلمت قال لا سبيل إليك، بعد أن قالها أمنت ... ». ولم يكف المشركون عن التآمر على قتله ،فقد ذكر ابن حجر في فتح الباري قال: (قال ابن اسحق وموسى بن عقبة وغيرهما من أصحاب المغازي: لما رأت قريش أن الصحابة قد نزلوا أرضاً أصابوا بها أماناً، وأن عمر أسلم، وأن الإسلام فشا في القبائل، أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله ،فبلغ ذلك أبا طالب فجمع بني هاشم وبني المطلب، فأدخلوا رسول الله شعبهم ومنعوه ممن أراد قتله ...). وأخرج أحمد بإسناد رجاله ثقات غير عثمان الجزري وثقه ابن حبان وضعفه غيره عن ابن عباس في قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ  وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ  وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ قال: «تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي ،وقال بعضهم بل اقتلوه، وقال بعضهم بل أخرجوه ...» الحديث.           وأخرج ابن هشام في سيرته: قال بن إسحق: (فحذرت قريش خروج رسول الله إلى أصحابه بالمدينة... فاجتمع الملأ من قريش في دار الندوة يتشاورون فيما يصنعون في أمر رسول الله ... ثم قال قائل منهم إحبسوه في الحديد... ثم قال قائل منهم نخرجه من بين أظهرنا... قال فقال أبو جهل والله إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد قالوا وما هو يا أبا الحكم؟ قال أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه). ومن الصحابة من صبر على القتل كسمية أم عمار رضي الله عنهما، وكانت أول شهيد في الإسلام.

وهناك مواقف كان رسول الله وبعض أصحابه يتحدون فيها المشركين، ويظهرون من الثبات ما هم له أهل منها:

  1. ما رواه البخاري في التاريخ الكبير عن موسى بن عقبة قال: أخبرني عقيل بن أبي طالب قال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا فقال: يا عقيل: ائتني بمحمد، فانطلق إليه فاستخرجه من كبس، يقول من بيت صغير، فجاء به في الظهيرة في شدة الحر فجعل يطلب الفيء يمشي فيه من شدة حر الرمضاء، فلما أتاهم قال أبو طالب: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم فانته عن أذاهم، فحلق النبي بصره إلى السماء قال: ترون هذه الشمس قال ما أنا بأقدر على أن أرد ذلك منكم على أن تشعلوا منها شعلةفقال أبو طالب: والله ما كذبنا ابن أخي قط فارجعوا.
  2. وما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: انطلق سعد بن معاذ معتمراً، قال فنـزل على أمية بن خلف أبي صفوان، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد، فقال أمية لسعد انتظر حتى إذا انتصف النهار، وغفل الناس، انطلقت فطفت، فبينا سعد يطوف إذا أبو جهل، فقال: من هذا الذي يطوف بالكعبة؟ فقال سعد أنا سعد، فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة آمناً وقد آويتم محمداً وأصحابه! فقال: نعم، فتلاحيا بينهما. فقال أمية لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم، فإنه سيد أهل الوادي، ثم قال سعد: لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام، قال فجعل أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك وجعل يمسكه، فغضب سعد فقال: دعنا عنك فإني سمعت محمداً يزعم أنه قاتلك، قال: إياي؟ قال: نعم، قال والله ما يكذب محمد إذا حدث ... الحديث.
  3. وما رواه الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي ... فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي ،ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي :«ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري»، قال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس، فأكبّ عليه، قال ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام، فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا إليه، فأكب العباس عليه.
  4. وما رواه أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة عن عروة قال: كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله بمكة عبد الله بن مسعود، قال اجتمع يوماً أصحاب رسول الله فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط فمن رجل يسمعهموه؟ قال عبد الله بن مسعود أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال دعوني فإن الله عز وجل سيمنعني، قال فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، فقام عند المقام، ثم قال: بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ رافعاً صوته ٱالرَّحْمَـٰنُ (١) عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ (٢) ، قال ثم استقبلها يقرأ فيها، قال: وتأملوا فجعلوا يقولون: ما يقول ابن أم عبد؟ قال: ثم قالوا إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه، وقد أثروا في وجهه قالوا: هذا الذي خشينا عليك، قال ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها، قالوا: حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهون.
  5. وما رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها زوج النبي قالت: لم أعقل أبويّ قط إلا وهما يدينان الدين ... وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنّة فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك ... ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان، قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إليّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب، أني أخفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل ... .
  6. وما رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قاتل عمر المشركين في مسجد مكة فلم يزل يقاتلهم منذ غدوة حتى صارت الشمس حيال رأسه، قال وأعيى وقعد فدخل عليه رجل، عليه برد أحمر وقميص قومسي حسن الوجه، فجاء حتى أفرجهم فقال: ما تريدون من هذا الرجل؟ قالوا لا والله إلا أنه صبأ، قال فنعم رجل اختار لنفسه ديناً فدعوه وما اختار لنفسه، ترون بني عدي ترضى أن يقتل عمر؟ لا والله لا ترضى بنو عدي، قال: وقال عمر يومئذ: يا أعداء الله والله لو قد بلغنا ثلاثمئة لقد أخرجناكم منها، قلت لأبي بعد: من ذلك الرجل الذي ردهم عنك يومئذ؟ قال: ذاك العاص بن وائل أبو عمرو بن العاص. هذا لفظ الحاكم. وهذا الحديث لا يتعارض مع حديث عبد الله بن عمر السابق الذي يرويه البخاري، وفيه أن عمر كان في داره خائفاً من القتل، لأنهما يمكن أن تكونا حادثتين في وقتين مختلفين.
  7. وما رواه البيهقي في الدلائل، والذهبي في التاريخ عن موسى بن عقبة: وكان عثمان بن مظعون وأصحابه فيمن رجع، فلم يستطيعوا أن يدخلوا مكة إلا بجوار، فأجار الوليد بن المغيرة عثمان بن مظعون، فلما رأى عثمان ما يلقى أصحابه من البلاء، وعذب طائفة منهم بالسياط والنار، وعثمان معافى لا يعرض له، استحب البلاء فقال للوليد: يا عم قد أجرتني، وأحب أن تخرجني إلى عشيرتك فتبرأ مني، فقال: يا ابن أخي لعل أحداً آذاك أو شتمك؟ قال: لا والله ما اعترض لي أحد ولا آذاني، فلما أبى إلا أن يتبرأ منه، أخرجه إلى المسجد، وقريش فيه كأحفل ما كانوا ولبيد بن ربيعة الشاعر ينشدهم، فأخذ الوليد بيد عثمان وقال: إن هذا قد حملني على أن أتبرأ من جواره، وإني أشهدكم أني بريء منه، إلا أن يشاء، فقال عثمان: صدق أنا والله أكرهته على ذلك وهو مني بريء. ثم جلس مع القوم فنالوا منه.
  8. ورغم ثبات الصحابة رضوان الله عليهم، إلا أنهم شكوا لرسول الله ،وطلبوا منه أن يدعو لهم ويستنصر لهم، فكان جوابه ما رواه البخاري عن خباب بن الأَرَتّ قال: «شكونا إلى رسول الله ، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه، من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».