إن الإنجليز أرادوا أن يوجدوا في الدولة العثمانية فراغاً سياسياً ليقوموا هم بملئه كما يشاؤون. ومن أجل الوصول إلى ذلك تركوا أمر سياسة البلاد ظاهرياً لأهلهاً ودفعوا عملاءهم للقيام بالأعمال السياسية، ووقفوا وراء الستار يوجدون في البلاد القلق وعدم الاستقرار السياسي، ليظهر العجز عن القيام بسياسة البلاد حتى يحصل الفراغ السياسي. وذلك أن الفراغ يعني عدم القدرة على العمل وعدم القدرة على الثبات، أي أن هناك قوة، ولكن هذه القوة لا تظهر بالمظهر اللائق بها وبالقدرة المناسبة لها.

 

والفراغ إما أن يكون فراغاً سياسياً، أو فراغاً عسكرياً، أو فراغاً استراتيجياً.

 

أما الفراغ السياسي فهو أن تكون الدولة غير مستقرة، وغير متناسقة، وفيها قلق وعدم استقرار سياسي، فتصبح الحاجة ماسة لسد هذا الفراغ بإعطاء الدولة القوة والمقدرة على العمل وعلى الثبات. والإنجليز قد جعلوا الدولة العثمانية بعد احتلالهم لها محصورة في الإقليم التركي، وتركوها قائمة بسياسة البلاد ورعاية شؤونها.

 

وبهذا وجدت في البلاد قوة سياسية. ولكنهم أخذوا يقومون بالأعمال التي تجعل هذه القوة لا تظهر بالمظهر اللائق بالدولة ولا بالقدرة المناسبة لها، وتجعلها غير قادرة على القيام بأعباء الحكم وغير قادرة على الثبات، ومن أجل ذلك قاموا بلعبتهم لحل البرلمان، لإيجاد القلق وعدم الاستقرار.

 

عجز الدولة

ثم دفعوا الناس للقيام بالأعمال السياسية التي توجد عدم التناسق، وتوجد البلبلة. وبالفعل أوجد حل البرلمان ضجة وقلقاً، وصار الناس يلمسون عجز الدولة عن القيام بأعباء الحكم، فحاولت جماعة من رجالات البلاد إنقاذ الموقف.

 

ففي 29 تشرين الثاني( نوفمبر) سنة 1918 دعا الدكتور أسعد وهو طبيب يمني ومن المشتغلين بالأمور السياسة، دعا إلى عقد مؤتمر وطني في العاصمة ضم ثمانية أحزاب وعدداً كبيراً من الكتل الصغيرة، للبحث في حالة البلاد. فعقد عدة جلسات، ثم انفض دون أن يثمر شيئاً.

 

وتألفت جماعة من ثلاثين شخصاً من الوزراء السابقين، وأصحاب المقامات العالية، ككتلة باسم الوحدة الوطنية، والتفوا حول رئيس مجلس النواب السابق، أحمد رضا الذي أسس جمعية تركيا الفتاة، ولكنها لم تحظ بأي نصيب من النجاح.

 

ونشط الاتحاديون نشاطاً ملحوظاً، ولكن ذلك لم يجد شيئاً أيضاً، وهكذا صار الناس يشعرون بوجود دولة، ويشعرون بعدم قدرتها على قيامها بأعباء الحكم والسياسة، وصار المشتغلون بالسياسة جماعات متعددة، وأفراد متعددين، ولكنه لا يوجد أي تناسق بينهم أو انسجام، ووجدت محاولات متعددة للقيام بالعمل السياسي المنتج ولكنها كلها كانت تخفق وتقف.

 

معالم الفراغ السياسي

وصار الفراغ السياسي في البلد واضحاً يشعر به كل إنسان. فلا مجلس يمثل الأمة يرجع إليه السلطان للاستشارة وإعطاء الرأي، فيحصل التناسق ويقوم السلطان بأمور البلاد وينهض بالأعباء السياسية. ولا وزارة تتصل بالأمة، وتقوم بأعمال متناسقة مع أعمال السياسيين ومع الناس، وتنهض بأعباء السياسة وأمور البلاد. ولا خليفة يشارك الناس الرأي، وينسق الجهود، ويوجد الأعمال السياسية. فالبرلمان قد حل، والوزارة مشلولة، والخليفة شبه سجين. ولذلك برز الفراغ السياسي، أي برز في الدولة عدم القدرة على العمل وعدم القدرة على الثبات. مع إحساس الناس بوجود الدولة ووجود الحكام.

 

كما برز عدم التناسق والقلق وعدم الاستقرار السياسي. ولم يستطع رجالات البلاد على كثرتهم أن يملأوا الفراغ السياسي، لعدم التناسق بينهم بسبب اختلاف آرائهم واختلاف مصالحهم. ولأن المناقشات والخطب وحدها لا تحدث وجوداً سياسياً ولا تملأ الفراغ السياسي إلا إذا أثمرت شيئاً. وإثمارها إما بحمل الدولة على النهوض بالأعباء الملقاة عليها وجعلها قادرة على العمل، قادرة على الثبات، وإما بالوصول إلى الحكم والاضطلاع بالمسؤولية كاملة، أو إظهار القدرة على العمل والثبات. أما الاقتصار على الخطب والمذكرات السياسية دون أن تنتج شيئاً، وترك الدولة في هذه الحال من العجز، وترك البلاد في هذا الوضع من القلق وعدم الاستقرار، فإن هذه الخطب والمذكرات السياسية تكون جهداً ضائعاً وحركة لولبية كدوران حمار الرحى ولا يلبث أن يظهر إخفاقه.

 

ولذلك لم تثمر محاولات رجالات البلاد ولا حركات الأحزاب، واستمر الحال في هذا الفراغ السياسي الفظيع مدة ستة أشهر، ودام ذلك من تشريع الثاني 1918 حتى نهاية نيسان 1919.

 

إثارة فكرة الاستقلال على أساس قومي

وأثناء ذلك كان الإنجليز يثيرون في البلاد فكرة الاستقلال، وأنه حق من حقوق الشعب، ويجب أن تكون تركيا للأتراك كما أن أمريكا للأمريكيين، ويجب خلق دولة حديثة على أسس ودعائم عصرية. تركيا الحديثة القائمة على إرادة الشعب، ولأجل الشعب، تركيا التي تتمتع بالسلطان المطلق، والسيادة التامة، تركيا الحديثة التي لا تترك مجالاً لمهازل السلطان.

 

كانت هذه الأفكار تبث بين الناس خاصة في إسطنبول، وبين الشباب وضباط الجيش. ولكي يدرك المرء قدرة الإنجليز على بث هذه الأفكار وإيجاد أنصار لها، ينبغي أن يستعرض ما قام به الإنجليز حين كانت الدولة العثمانية قائمة، من بث النعرة القومية، والنزعة الانفصالية، باسم الاستقلال، وأثروا بها على البلقان حتى أوجدوا فيه القلاقل والاضطرابات، مما أدى إلى سلخ كثير من أجزائه عن الدولة العثمانية، وما قاموا به كذلك من بث النعرة القومية، والنزعة الاستقلالية أي الانفصالية في العرب والترك، حتى جعلوا رعايا الدولة فريقين. ولم يكن لهم من وسائل سوى شعاراتهم وعملائهم، فكيف وهم الآن يحتلون البلاد، ويستولون على جميع أمورهم. والسلطان ورئيس وزرائه دمى بين أيديهم، يحركونها كما يشاؤون. بهذا نجحوا في إيصال هذه الفكرة إلى كثير من الناس.

 

مصطفى كمال العدو الصديق

ثم تحرك مصطفى كمال للعمل ولكن بشكل سري جداً من غير أن يشعر به أحد، وكان الكثيرون في ذلك الحين يعدونه صديقاً للسلطان وكان لا يبدو عليه مطلقاً أنه يدس على الحكومة، أو نه غير راض عنها. وبذلك أخفى حركاته وسار على مهل يؤلف جماعة على أساس مقاومة الاحتلال وإنقاذ البلاد. ولكنه كان أصرح مع المقربين إليه. وذكر أنه مرة أخذ بشرح خطته لجماعة من أقرب المقربين إليه في إسطنبول فيقول لهم: «إن الحكومة ليست حرة في الوصول إلى أي قرار، وإن السلطان لا يَفرق كثيراً عن السجين في أيدي الظافرين، وإن مركز الحكومة القومية ينبغي أن ينتقل إلى داخل البلاد إلى الأناضول. ففي الأناضول يمكن أن يغرى أهل البلاد بالاندماج في الحركة القومية والاشتراك فيها، وإن الحركة القومية قد ينجم عنها نجاة عرش السلطان المهدد، وخلاصه من أيدي المحتلين. وينبغي أن تبذل كل المساعي لتجنب الاصطدام بالشعوب الأوروبية، فإن الحركة التي ننوي القيام بها سلمية... وإن أول شيء ينبغي أن نفعله هو أن نخلص السلطان... وإني لا أجد كلمة طيبة أقولها عن حكومة الداماد فريد باشا. ولهذا أرى أن قلب هذه الحكومة يعد ولا شك من الأعمال الوطنية».

وقد ضم إلى نشاطه السري هذا سعيه إلى تولي قيادة الجيش ولكنه لم يوفق ويئس من ذلك فيما بعد، إذ قد قيل له بصراحة إنه لا أمل له على الإطلاق في قيادة الجيش، ولا في تعيينه في وظائف الدولة، فسكت ولم يظهر أي امتعاض. وظل يتظاهر بحفاظه على ولائه للخليفة وللوزارة، ولم يقم بأي عمل سوى جمع الأنصار، وبث فكرة الاستقلال، وأنه يكتسب ولا يوهب. وما شاكل ذلك من الأفكار التي كان يبثها الغرب ولا سيما الإنجليز.