مصطفى كمال الأبرز لهدم دولة الخلافة / كيف هدمت دولة الخلافة

كان مصطفى كمال ضابطاً صغيراً مغموراً عند بدء الحرب، وإن كان معروفاً بأفكاره الغربية وبثورته على أفكار الإسلام، ومعروفاً بميله للإنجليز وكرهه للألمان. ولم يظهر اسمه ويلمع إلا بعد اشتراكه في معركة (أنا فورطه). فإنه منذ ذلك الحين اكتسب دعاية واسعة، ونبه ذكره، وصار مشهوراً.

 ففي ربيع سنة 1915 أي في ابتداء السنة الثانية للحرب العالمية توقفت ألمانيا عن محاولتها الاستيلاء على الأراضي الفرنسية لأن كلاً من ألمانيا وفرنسا لم تستطع قهر جارتها والانتصار عليها انتصاراً حاسماً. وكان الروس قد تعرضوا لانكسار شنيع ولا يستطيعون النهوض من كبوتهم والنضال من جديد قبل أن تعمل الدول الغربية على وجه السرعة وبأسلوب منتظم على مَدِّ روسيا بالذخائر الحربية التي كانت في أشد الحاجة إليها. وقامت الدول بشحن السفن ولكنها حوصرت في البحر الأبيض المتوسط ولم تستطع الوصول إلى روسيا. فكان لا بد من الهجوم على إسطنبول، وفتح المضايق، لدخول هذه السفن وإمداد روسيا بشكل منظم. وكانت قيادة الجيش العثماني في ذلك الحين في يد الجنرال الألماني (لمان فون ساندروز) وقد أوكل هذا القائد قيادة إحدى الفرق للقائمقام مصطفى كمال بك، وفي هذا الوقت حصل الهجوم من الحلفاء على إسطنبول.

ففي نيسان (إبريل) سنة 1915 حاول الإنجليز القيام بهجوم كاسح وتأهبوا واستعدوا استعداداً كافياً للقتال. فدخلوا المعركة واستطاع الجيش الإنجليزي الوصول إلى غاليبولي، وتمكن الإنجليز من تشتيت الفرق العثمانية، فاضطر الجنرال ساندروز أن يعزل القائد الذي تولى قيادة المعركة، وعين مكانة القائمقام مصطفى كمال، وكان لا يزال في رتبة قائمقام (كولونيل)، وظهر مصطفى كمال يقود الجيوش العثمانية بالقرب من (أنا فورطه) في موقعة من أشد المواقع خطورة بالقرب من الدردنيل، وكانت المعركة تدور على تل يحتل الأتراك أعلاه ويحتل الإنجليز سفحه ويحاولون الاستيلاء عليه، وظلت المعركة عدة أيام ولم تكمل الغلبة لواحد من الطرفين المتقاتلين، وظلت الأوضاع كما هي يحتفظ العثمانيون بمراكزهم ويحتفظ الإنجليز بمراكزهم والحرب دائرة بينهم.

واستمروا على ذلك عدة أشهر، وفجأة في ذات ليلة من ليالي كانون الأول في 15 منه، في جو محفوف بالكتمان الشديد قام الإنجليز بإخلاء المكان الذي احتلوه من ساحل غاليبولي، وأقلعت السفن الحربية بعد أن عُبِّئَت في سرعة تدعو إلى الدهشة، فكان ذلك الانسحاب هو الذي أنهى المعركة.

ولما انتهى القتال قدم القائد مصطفى كمال تقريره عن المعركة للقائد الألماني العام، وقدم مع التقرير ساعته التي تهشمت تهشيماً تاماً، فقد أصابتها رصاصة ولم تصب مصطفى كمال، فلما أخذها ليمان ساندروز أخرج فوراً ساعته الذهبية وقدمها لمصطفى كمال وأخذ منه ساعته المهشمة ليحتفظ بها تذكاراً.

وبهذه المعركة لمع نجم مصطفى كمال، وصارت له شهرة عظيمة في الجيش العثماني. إذ قد أحيطت هذه  المعركة بدعاية واسعة، واعتبرت انتصاراً باهراً لمصطفى كمال على الإنجليز، ولكن مصطفى كمال كان يحمل فكرة عدم الاشتراك في الحرب. وبالرغم من شهرته التي اكتسبها في موقعه أنا فورطه فإنه ظل على فكرته في انسحاب الدولة من الحرب. ولم يكتف بحمل هذا الرأي بل صار بعد أن وجدت له هذه الشهرة في الجيش وعند الناس، يحاول التأثير على الشخصيات القوية ليؤمنوا بها، ولكنه كان يقابل منهم بالفتور والتبرم، ولذلك صار محل ريبة. وبالرغم من ثقتهم بمقدرته الحربية بعد هذه المعركة إلاّ أنه لم يكن هناك من يريد تشجيعه على التغلغل في شؤون البلاد السياسية، بل كانوا يقفون في وجهه عندما يحاول أن يشترك في سياسة البلاد اشتراكاً فعلياً. فقد كان يحمل إكباراً للإنجليز، وثقة بهم، واعتقاداً بمقدرتهم، ويرى أنهم هم المنتصرون لا محالة، وأن ألمانيا ستهزم، ومن هنا كان محل ريبة. حتى كان الرجل الذي تزداد صلاته به يصبح عرضه لريبة السلطات ومراقبتها.

 

  هل وجدت في موقع