طباعة
المجموعة: كيف هُدِمَت دولة الخلافة

بتغير نظام الحكم في الدولة العثمانية وجعله دستورياً برلمانياً لم يعد نظام خلافة. ولم يبق فيه إلا أن رئيس الدولة اسمه الخليفة وبيده السلطنة، فوجُد برلمان ووُجدت وزارة وصارت القوانين يضعها البرلمان وانتهى دور الأحكام الشرعية في الحكم والتشريع. وبهذا تُركت أحكام الشرع وتُرك الفقه الإسلامي، وأُخذت قوانين الغرب وأُخذ الفقه الغربي. وقد كان أَخذهم للقوانين مختلفاً بعضها عن بعض.

كيف هدمت دولة الخلافة؟  الفتاوى الخاطئة أخذت القوانين الغربيةفبعض القوانين الغربية أخذت كما هي أحكاماً ونصوصاً من غير أية مراعاة لوجودها في الفقه الإسلامي وعدم وجودها، ومن غير تفكير بأنها مطابقة لأحكام الشرع أو غير مطابقة، وذلك كقانون الجزاء الذي أَلغى الحدود. وبعض القوانين أُخِذَت أحكاماً فقط مع مراعاة أنها موجودة في الفقه الإسلامي ولو لمجتهدٍ مغمور. أو فقيهٍ غير مجتهد، أي إذا كان الحكم موجوداً في كتب الفقه أو آراء العلماء أُخذ وإلاّ فلا يؤخذ وذلك كأصول المحاكمات. وبعض القوانين قُلدت تقليداً في التقنين والتبويب والمسائل مع جعل الأحكام الشرعية وحدها مواد القانون كالمجلة فإنها أحكام شرعية وُضعت تقليداً للقانون المدني الفرنسي. وبذلك صار الشرع الذي يَحكم به القضاة قوانين غربية وليس الشريعة الإسلامية وإن كان بعض هذه القوانين أحكاماً شرعية.

أثر الفتاوى في إدخال القوانين الغربية

والذي مَكَّن من إدخال أَحكام النظام الديمقراطي دستوراً للدولة الإسلامية، وأَحكام القوانين الغربية تشريعاً يُطَبَّق في المحاكم بوصفها محاكم إسلامية في دولة الخلافة إنما هو فتاوى العلماء بأنها لا تخالف الإسلام، ولا سيما فتاوى شيخ الإسلام. فقد أُعطيت الفتاوى بأن النظام الديمقراطي لا يخالف الإسلام، وأَن الإسلام دينُ الديمقراطية. وأُعطيت الفتوى من شيخ الإسلام بجواز أخذ القوانين الغربية وتطبيقها في المحاكم على المسلمين، لأن الإسلام لا يمنع أخذها. وبذلك:

ولم يؤثر هذا التطبيق للنظام الديمقراطي في نظام الحكم والقوانين الغربية في المحاكم على إسلامية الدولة، ولا على إسلامية القوانين في نظر جمهرة المسلمين، ما دام الإسلام لم يمنع من أخذ هذه القوانين. بل على العكس من ذلك، فقد وجد قبولاً لدى المسلمين، بل اعتبر إصلاحاً في الدولة عند بعضهم، ولم ينظر أحد إلى هذه القوانين وتلك الأحكام على أنها أحكام كفر وقوانين كفر، بل رضوا بها وسكتوا عنها. وإذا وُجد من يستنكر تلك القوانين والأحكام فإنه لم يتلكم، ولم يعارض الخليفة، ولم يطلب منه شيئاً. وإذا وُجد من يستنكر تعطيل الحدود فإنه لم يجاهر بإنكاره على الخليفة تعطيل الحدود، ولم يطلب منه الرجوع إليها.

والسبب في فتوى شيخ الإسلام وبعض العلماء بأخذ الأحكام الديمقراطية، والقوانين الغربية يرجع إلى ثلاثة أمور خاطئة:

أحدها: - ما تركز في الأذهان حينئذ وحتى اليوم من أن ما لا يخالف الإسلام، وما لم يرد نص في النهي عنه يجوز أخذه. ويستدلّون على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجد عقود الجاهلية جارية بين الناس فأقرّها، وما لم يقره نهى عنه، فصح ما أقره وحُرِّم ما جاء النهي عنه. وكذلك كل فكر أو حكم أو قانون لا يخالف الإسلام ولم يرد نهي عنه يجوز أخذه.

ثانيها: - أن المباح هو ما لا حرج فيه، فانتفاء الحرج عن الشيء هو إباحة له، فيكون أخذ ما لم يرد نهي عنه مباحاً. وأيضاً أن الشرع سكت عنه ولم يبين حكمه وما سكت عنه الشرع فهو مباح. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تَنْتَهِكوها، وحَدَّ حُدوداً فلا تَعْتَدوها، وعَفَا عن أشياء رحمةً بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها». وفي رواية: «وما سكت عنه فهو عفو». وعلى هذا فكل شيء لم ينه عنه الشرع فهو مباح، وكل ما لم يرد نص فيه فقد سكت عنه الشرع فهو مباح. وأَخْذ الأحكام والقوانين التي لم ترد في الشرع، ولم يرد في الشرع نهي عنها داخل في المباح لأنه ليس فيه حرج، إذ لم يرد نهي عنه، ولأنه لم يرد في الشرع، وسكت عنه الشرع.

ثالثها: - ما شاع في تلك الأوقات ولا يزال شائعاً حتى اليوم من أن الديمقراطية من الإسلام لأنها قائمة على الشورى والعدل والمساواة وجعل السلطان للأمة وهذا ما جاء به الإسلام. فالإسلام يسوي بين الغني والفقير، والحقوق والواجبات، وبين الوزير وراعي الغنم، ويجعل أمرهم بينهم شورى، وجعل من أهم قواعده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والشورى في الإسلام نُظِّمت في العصر الحديث بما يسميه الأوروبيون البرلمان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تَشَكَّل في المدنية الحديثة بحرية الصحف في النقد، وحرية الأفراد والجماعات في التأليف وإبداء الرأي صراحة يَسْتحسنون ما يَروْن ويَستنكرون ما يَروْن، ويخطبون كما يشاؤون. فلا أحد معصوم، ولا الحكومة معصومة ولا الوالي معصوم، وإنما يُقوّمهم ويُخيفهم ويُلزمهم الجادَّة يَقْظَةُ الرأي العام وحرّيته في النقد، وهذا هو ما سمي في القرآن بالتواصِّي بالحق. وعليه فالديمقراطية هي من الإسلام وقد جاء بها القرآن وأمر بها النبي عليه السلام.

 خطأ الفتاوى

وبناء على هذا كله أُعطيت الفتاوى بأخذ الدستور الديمقراطي والقوانين الغربية، وظلت الدولة تُعتبر دولة إسلامية سائرة على نظام الخلافة، وظل التشريع مُعتبراً تشريعاً إسلامياً، وصارت القوانين التي أخذت قوانين إسلامية.

ومن هنا جاء الخلل والانحراف، لأن هذه الأفكار في الأمور الثلاثة خطأ أساسي في فهم الإسلام وذلك لعدة وجوه تم بيانها في المقال بطلان الفتوى بأخذ بالديمقراطية والقوانين الغربية وكذلك في مقال بُطلان وكُفر وحُرمة الديمقراطية، تأصيلاً وتفصيلاً