طباعة
المجموعة: كيف هُدِمَت دولة الخلافة

ولما كان الدستور الذي فرضه مدحت بدعم أوروبي نظاماً ديمقراطياً، أي أحكام كفر، وهو كنظام ديمقراطي يناقض الإسلام، وهذه الأحكام نفسها تناقض الإسلام، وإذا طبقت فإن تطبيقها يعني إلغاء نظام الخلافة، وإقامة دولة كأي دولة أوروبية، كبلجيكا مثلاً التي استُوحي الدستور من دستورها. لذلك لم ينفذه الباب العالي، ووقف في وجهه عبد الحميد  الثاني والعلماء وكبار المسلمين، وصار الباب العالي يتهرب من تنفيذ الدستور، ومن تنفيذ مطالب الدول الكبرى.

 وقد لمس عبد الحميد أَلاَعيب إنجلترا وخصومتها. ويبدو أنه لاحظ محاولاتها الاتصال برجال الدولة، فأقال مدحت باشا كصدر أعظم في 5 شباط سنة 1877، ونفاه باعتباره مرتكباً للخيانة العظمي. وكان مدحت باشا على صلة مع الإنجليز، وهو الذي أوحى باتباع سياسة الاعتماد على الدول الغربية، ولكن الدول الكبرى ولا سيما الإنجليز لم يغفلوا عن الدولة العثمانية، وظلوا يلاحقون وضع الدستور الذي وضعه مدحت باشا موضع التنفيذ، وسعت إنجلترا إلى عقد مؤتمر للبحث في البلقان، والدولة العثمانية، وفي الإصلاحات الداخلية لها.

فعقد بتاريخ 13 حزيران سنة 1878 مؤتمر برلين من الدول الكبرى: إنجلترا وفرنسا وروسيا وألمانيا، وكان دزرائيلي اليهودي رئيساً لوزراء إنجلترا وكان هو الممثل للإنجليز في المؤتمر، وكان بسمارك هو الممثل للألمان، وقد وقف بسمارك بجانب الدولة العثمانية حين وقف ضد الإنجليز في المؤتمر، واستغرقت اجتماعات المؤتمر أربعة أسابيع، واتخذ في النهاية مقررات، منها: الطلب إلى الدولة العثمانية بإدخال الإصلاحات العصرية إلى نظامها، فلم يأبه بهم عبد الحميد، وصرف هِمَّته إلى تدريب جيشه، وأخذ يبطش بكل من يدعو للاعتماد على الدول الغربية، أو يطالب بترك الإسلام وأَخْذِ النظام الغربي، فاضطر هؤلاء إلى مغادرة البلاد ليُنشئوا مراكز لهم في باريس وجنيف.

كيف هدمت دولة الخلافة؟ وقوف عبد الحميد في وجه محاولات فرض دستور يلغي الخلافةوأخذ عبد الحميد يحاول القيام بتدعيم مركز الخلافة لدى المسلمين عن طريق الإسلام، وجعله يقف في وجه الأفكار الأوروبية. ولكنه لم ينجح في ذلك، ولكن ظلت الدول الأوروبية عاجزة عن إدخال النظام الديمقراطي للدولة، وإن نجحت في إدخال القوانين الغربية إليها. إلا أنها ظلت تلاحق ذلك، إلى أن ثار حزب تركيا الفتاة على السلطان سنة 1908، فأعلنوا الدستور في 21 تموز (يوليو) سنة 1908 في سالونيك، وفي الشهر نفسه زحفوا على إسطنبول واحتلوها، وأكرهوا السلطان عبد الحميد على إقرار الدستور، وتعيين وزراء يرضون عنهم.

وفي 17 كانون الأول صار من الميسور افتتاح البرلمان العثماني، وخضع عبد الحميد مؤقتاً لحزب تركيا الفتاة، ولكنه كان مصمماً على إلغاء الدستور والرجوع إلى الشريعة الإسلامية.

وبتاريخ 13 نيسان اندلعت الثورة ضد الحكام الجدد، وثار الجنود وحاصروا ضباطهم، وأخذوا يهتفون: فلتسقط تركيا الفتاة، فلتسقط تركيا الفتاة. وأُعلنت الحرب الدينية على البدع العصرية، وسار السواد الأعظم في حماس ضد الدستور.

وفي 15 نيسان عين السلطانُ توفيق باشا صدراً أعظم، وعهد إليه بإعادة الشريعة الإسلامية والأحكام الشرعية إلى حيز التنفيذ، وإلغاء الدستور. ولكن الجيش في سالونيك عاد وثار مرة أخرى على السلطان، واستولى على الحكم، وعزل الوزارة.

وفي 26 نيسان عقدت في سان ستيفانو جمعية وطنية، فاتخذت بناء على فتوى من شيخ الإسلام قراراً بخلع السلطان عبد الحميد. ورفع إلى العرش أخوه محمد رشاد، وأُعيد وضع الدستور موضع التنفيذ. وبذلك تغير نظام الحكم في الدولة العثمانية وصار دستورياً برلمانياً ولم يعد نظام خلافة. ولم يبق فيه إلا أن رئيس الدولة اسمه الخليفة وبيده السلطنة، فوجُد برلمان ووُجدت وزارة وصارت القوانين يضعها البرلمان وانتهى دور الأحكام الشرعية في الحكم والتشريع.

هذا من ناحية الأحكام الدستورية، أما من ناحية الأحكام الشرعية التي يحكم فيها القضاة فإن تغييرها إلى قوانين بدأ قبل ذلك. فإنه منذ سنة 1856 بدأت الحركة لأخذ القوانين الغربية. فإنه بناء على إلحاح الدول الغربية ولا سيما الإنجليز والفرنسيين وإلحاح عملائهم والمضبوعين بهم من أبناء المسلمين أخذت الدولة القوانين الغربية منذ أيام السلطان عبد الحميد وأدخلتها إلى الدولة، ووضعتها موضع التنفيذ يحكم القضاة بحسبها:

  1. ففي سنة 1275 هـ الموافق سنة 1857 م سنت الدولة قانون الجزاء العثماني،
  2. وفي سنة 1276 هـ الموافق سنة 1858 م سنت قانون الحقوق والتجارة،
  3. وفي سنة 1288 هـ الموافق سنة 1870 م جعلت المحاكم قسمين: محاكم شرعية، ومحاكم نظامية، ووضع لها نظام.
  4. ثم في سنة 1295 هـ الموافق سنة 1877 م وضعت لائحة تشكيل المحاكم النظامية.
  5. وفي سنة 1296 هـ الموافق سنة 1878م وضع قانون أصول المحاكمات الحقوقية والجزائية. وصدرت فيها الفتوى من شيخ الإسلام وفتاوى العلماء بجواز أخذها لأنها لا تخالف الإسلام.
  6. ولما لم يجد العلماء ما يبرر إدخال القانون المدني إلى الدولة وضعت المجلة قانوناً للمعاملات، واستبعد القانون المدني، وذلك سنة 1286 هـ الموافق 1868 م

وقد روعي فيها تقليد القانون المدني الفرنسي القديم, وأخذت من كتب الفقه مع مراعاة ما يحويه القانون المدني من أفعال، وما يمكن أخذه منه أحكام، إذا وُجد قول فقهي يوافقها، حتى الأساس الذي عليه القانون المدني الفرنسي وهو النزعة النفسية أو ما يسمى عندهم روح النص لا نفس النص قد أُخذ ووُضعت له مادة وهي «العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني».