طباعة
المجموعة: كيف هُدِمَت دولة الخلافة

مدحت باشا، والذي كان متشبعا بالأفكار الغربية وعاشقا لحضارتة الغرب، كان وزيراً للعدل في وزارة محمد رشدي باشا، أيام الخليفة عبد العزيز. فقام بمحاولة لإقناع عبد العزيز في وضع دستور للدولة من النظم الديمقراطية الغربية، فكتب له كتاباً يطلب فيه إصلاح الوضع في الدولة بوضع دستور لها، ومما قال في ذلك الكتاب بعد سرد ما عليه الدولة من الفساد:

 «لا يخفى على حكمة جلالتكم أن الدواء الشافي لهذه العلة هو اجتثاث أسبابها التي نعرفها حق المعرفة، فإذا أُزيلت الأسباب زال المرض، فإذا أصدرتم خطاً همايونياً جديداً حتمتم فيه اتباع القوانين والنظم، والمساواة بين الغني والفقير، والكبير والصغير، في نظر القانون، وأرجعتم المنشآت الخيرية إلى أهلها، وصرفتم الأموال في سبيل ما خصصها له الواقفون، وأعدتم مرجع أمور الدولة إلى الباب العالي (يعني الوزارة) فَيُقرّ قَراراته ويعرضها على جلالتكم، ولم تستأثروا جلالتكم بشيء من حقوق الدولة المالية والملكية، ولم تصرف المالية قرشاً واحداً إلا برأي الباب العالي، وحددت وظائف كبار الموظفين وصغارهم، وجعل الوزراء مسؤولين عن نتائج أعمالهم، وحتمتم ذلك على خواصكم ورجال حاشيتكم - إذا تم كله - حصلت النتيجة المطلوبة بعون الله تعالى، ووصلت الدولة إلى الطريق الذي ترجوه جلالتكم».

وقبل أن يقدم له الكتاب عرضه على الوزارة فاتفقت عليه، واتفقوا على أن يرفعه الرئيس إلى السلطان عبد العزيز، فقابله وأعطاه الكتاب، فغضب عبد العزيز غضباً شديداً من هذا الكتاب وأصدر أمره في الحال بعزل مدحت باشا من الوزارة، وإبعاده بتعيينه والياً لسلانيك. ولكن لم يلبث فيها طويلاً ورجع إلى إسطنبول، واتفق مع حسين عوني باشا سر عسكر الدولة على خلع عبد العزيز. ثم اتصلا بناظر البحرية، وبشيخ الإسلام، واتفقا معهما على خلع السلطان، وتواعدوا على يوم معين. وكان ذلك في الأشهر الأولى من سنة 1876، وقبل اليوم المعين بعث مدحت باشا مذكرة مُغَلَفَة إلى الدول الأوروبية باستثناء روسيا أعلن فيها أن خلع السلطان بات أمراً يحتمه الشرع الإسلامي الذي يقضي بأن يكون رئيس الدولة مالكاً لكامل قواه العقلية.

السلطان عبد العزيزوفي مساء 30 أيار (مايو) سنة 1876 أتى الأسطول فَرَسَا أمام سراي ضُوْلمة بَغْجة، واجتمعت العساكر، فأحاطت بالقصر، ودخل على السلطان من أبلغه خبر العزل، وتلوا عليه فتوى بخلعه صادرة عن شيخ الإسلام، وأنزلوه من السراي. وفي تلك الليلة نفسها رفع مراد الخامس إلى العرش.

وهكذا أطاح مدحت باشا بالخليفة بالاتفاق مع الدول الأوروبية لا سيما إنجلترا وألمانيا وفرنسا ما عدا روسيا، لأنه رفض أن يضع دستوراً للدولة الإسلامية من النظم الديمقراطية الغربية.

وقد وضُع خليفة للمسلمين رجل ظنوا أنهم سيقومون عن طريقة بوضع دستور من النظم الغربية، فقد كان مراد الذي صار خليفة بعد خلع عبد العزيز قد نشئ على الطريقة الأوروبية. واشتهر بأنه رجل مستنير، فكان موضع الأمل في وضع الدستور وتنفيذه، ولكن كانت صحته قد تحطمت بسبب اختلاله العقلي. غير أن مدحت كان يحاول إعلان الدستور فكان أثناء مرض مراد الخامس يجتمع بأَعوانه، ويدرس قوانين أوروبا ونظمها، ويضع الدستور حتى أعده كاملاً. غير أن مراد الخامس ظهر جنونه للناس بشكل بارز فكان لا بد من خلعه، فأعلن شيخ الإسلام خلعه في 31 آب سنة 1876.

وفي غرة أيلول رَقِيَ أخوه عبد الحميد إلى العرش وصار خليفة للمسلمين. وما هي إلا فترة قصيرة حتى تولى مدحت باشا مقاليد الصدارة العظمى. وبعد ذلك اقترحت إنجلترا عقد مؤتمر لسفراء الدول الكبرى في إسطنبول ابتغاء توطيد السلم في البلقان عن طريق مقترحات جديدة لإجراء الصلح، وعقد المؤتمر وضغط على الدولة العثمانية لإجراء الإصلاحات، فأخذ مدحت باشا يسعى لإجراء الإصلاحات الداخلية، فألف لجنة من ستة عشر موظفاً مدنياً، وعشرة علماء وقائدين كبيرين من الجيش. وعهد إليها بوضع مشروع دستور للدولة. وبعد مصاعب بالغة أقرت اللجنة مشروع الدستور المستوحى من الدستور البلجيكي، وقد نُشر تحت إسم «قانون أساس» في 23 كانون الأول. فأصبح دستور الدولة الرسمي، أي صار الدستور البلجيكي مع مراعاة بعض النواحي الإسلامية دستوراً للدولة الإسلامية.

ومما نص عليه هذا الدستور إطلاق لفظ العثمانيين على جميع رعايا الدولة، والاعتراف بحريتهم الشخصية. وبدلاً من أن يكون الإسلام هو دستور الدولة كما كان الحال من قبل هذا الدستور، نصّ الدستور على اعتبار الإسلام دين الدولة، أي تكون أعياد الدولة والأمور المتعلقة بمثل ذلك مراعى فيها الإسلام. ونص الدستور أيضاً على إقامة التمثيل الشعبي من طريق مجلسين: أحدهما للنواب، وكان يسمى مجلس المبعوثان. والآخر للشيوخ، المعروف بمجلس الأعيان، على أن يتمتع أعضاؤهما بحصانة نيابية، أي لا يخضعون لقوانين الدولة ولا للأحكام الشرعية حتى ترفع الحصانة عنهم، وأن يجتمع المجلسان في غرة تشرين الثاني من كل سنة، وأن يُفَتَتحا بخطاب عرش، وأن توضع القوانين التي يقترحها المجلسان معاً موضع التنفيذ بعد أن يُقرّها كل منهما ويوافق عليها السلطان، أي أن التشريع يشرعه المجلسان، وأن يُناط وضع الميزانية بمجلس النواب، وأن تنشأ محكمة عليا مؤلفة من عشرة أعضاء في مجلس الأعيان، وعشرة مستشاري دولة وعشرة مستشارين في محكمة الاستئناف، وأن يقوم الحكم في الولايات على أساس اللامركزية.