طباعة
المجموعة: كيف أقيمت دولة الإسلام ؟| الطريقة الفريضة

 قال الله سبحانه وتعالى((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)))

فائدة عظيمة في بيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم ، بوحي القرآن الكريم له، بالصراع الفكري والسياسي إلى جانب الصراع المادي العسكري، مع التركيز هنا على الصراع السياسي مع يهود لأنهم كانوا الأقرب إلى دولة الإسلام في ضواحي المدينة وحولها، ولأنهم كذلك كانوا الأكثر خبثاً ولؤماً في المؤامرات والكيد للإسلام والمسلمين. وهو ما يلي:

وهنا لا بدّ من وقفة نتدبر فيها ما أورد الله سبحانه في سورة البقرة حول طبائع اليهود الخبيثة وأعمالهم السياسية الحاقدة الماكرة ومحاولاتهم العقيمة ومناوراتهم السقيمة لندرك الحكم الشرعي المتعلق بالوعي على الواقع المحلي والدولي بالنسبة للإسلام وحملته.

وحتى تكون الصورة أكثر وضوحاً لا بدّ من تدبر هذا الأمر في مكة والرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه يصارعون فكرياً وسياسياً مجتمع مكة الجاهلي الكافر، ثمّ من بعدُ نتدبر الصراع السياسي والفكري وكذلك الصراع المادي مع الكفار بعامة ويهود بخاصة في المديـنـة عنـدمـا كانت للمسلمين دولة تطبق الإسلام وتقيم الحدود وتسيّر الجيوش وتنشر الإسلام بالدعوة والجهاد.

وبناءً عليه نبدأ باستعراض واقع الصراع السياسي والفكري مع الكفر وأهله في فترة حمل الدعوة الإسلامية في مكة قبل قيام الدولة الإسلامية في المدينة.

وباستقراء الأدلة الشرعية الواردة والوقائع التي كانت جارية يتبين ما يلي:

أولاً: لقد كانت الآيات تنزل في مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين العقيدة الإسلامية لتنقذ ذلك المجتمع الجاهلي الكافر من الظلمات إلى النور، وكذلك تنزل مبينة فساد عقائد الكفر وتسفيه أحلامهم وأصنامهم وتقيم الحجة عليهم فكرياً، فكان الصراع بين الدعوة الإسلامية والكفر وأهله صراعاً عَقَدِياً وفكرياً، - وسنبينه إن شاء الله في موضع آخر - وبالإضافة إلى ذلك كان هناك الصراع السياسي لبيان فساد رؤوس الكفر وكشف مؤامراتهم وحقدهم على الإسلام والمسلمين فضلاً عن قيامهم بالصدّ عن سبيل الله وتعذيب حملة الإسلام وإلحاق الأذى بهم، ثم وقوف رؤوس الكفر أولئك في وجه الدعوة إلى الله بكلّ ما أوتوا من ظلمٍ وظلامٍ وشرٍّ.

الوعي السياسي على رؤوس الكفر

وسنرجئ البحث في الصراع العَقَدِي والفكري بين الدعوة الإسلامية والكفر وأهله إلى موضع آخر - إن شاء الله - ولكننا سنتناول هنا الوعي السياسي على رؤوس الكفر كما وصفهم القرآن وصفاً حياً بآيات تنطق بفساد علانيتهم وخبث سرائرهم وتكشف مؤامراتهم وصدهم وكيدهم للإسلام والمسلمين:

هذه الآيات وآيات غيرها تبين أهمية الوعي السياسي على القوى المؤثرة التي تقف في وجه الدعوة الإسلامية والكشف عن مؤامراتها وحقدها وطباعها اللئيمة المليئة بالغدر والمكر، وارتباطاتها برؤوس الكفر عدوة الإسلام والمسلمين، وذلك لتكون الطريق مضاءةً أمام حملة دعوة الإسلام، يتفادون الغدر من الظهر، ويضعون أقدامهم حيث لا أشواك ولا ظلام ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وفي الوقت نفسه يخلخلون قلاع الأعداء ويكشفون ثغراتهم بل مناطق الضعف فيهم وكيف يُؤتون ومن أين يُؤتون.

ثانياً: لقد ازداد هذا الوعي السياسي على أعداء الإسلام بعد أن كانت الهجرة وأقيمت الدولة وأصبح للإسلام سيادة وسلطان في المدينة المنورة.

فاستمرت الآيات تنزل في العقيدة الإسلامية وفي بيان عقائد الكفر، وهنا أضيف للمشركين في مكة العرب، عقائد أهل الكتاب اليهود والنصارى، واستمرت كذلك تنزل في بيان فساد الأفكار المضللة وتنزل في الصراع السياسي مع القوى المحلية والدولية المؤثرة، وأصبحت هذه أوسع من ذي قبل فضُمّ لها - أي لكفار مكة ومشركي العرب - المنافقون واليهود والنصارى وفارس والروم وغيرهم، ثم أضيف إلى ذلك كله الصراع المادي بالجهاد في سبيل الله لنشر الإسلام بالدعوة والجهاد.

غير أنني هنا - كما ذكرت من قبل - سأركز فقط على الصراع السياسي مع يهود لأنهم كانوا الأقرب إلى دولة الإسلام في ضواحي المدينة وحولها، ولأنهم كذلك الأكثر خبثاً ولؤماً في المؤامرات والكيد للإسلام والمسلمين.

أما عن باقي أوجه الصراع فلعلني أتمكن من ذلك في وقتٍ آخرٍ وفي موضعٍ آخرٍ إنْ شاء الله.

كشف الله طباع يهود

وأما عن يهود فقد كشف الله طباعهم للملأ وبيّن حقدهم وكيدهم بياناً شافياً وافياً كدرسٍ عظيمٍ للتعامل معهم وبخاصة أنَّ كيانات كانت لهم، أي أنهم كانوا دولاً في جوار دولة الإسلام في المدينة:

- أ -. الذين آمنوا مع أنبيائهم - حبل من الله - وتلك قد انتهت.

- ب -. في حال تطفل وتبعية على الدول الأخرى - حبل من الناس - وهذه حالتهم منذ أن كفروا وحرّفوا دينهم، هي حالة واضـحة عليهم لا تفارقهم فقبل الإسـلام كانت قوتهم تارة تأتي بالتبعية للروم أو للفرس ثم بشقّ الصف بين الأوس والخزرج لإضعافهم، فلما قضى الإسلام عليهم ككيان عاش من بقي منهم في ذلةٍ ومسكنةٍ وغضـبٍ مـن الله ولم تقم لهم قائـمـة حتى استطاعوا أن يلتصقوا بالدول الكافرة المستعمرة خلال هذا القرن بعد زوال دولة الإسلام - دولة الخلافة - فهم على الدوام في خضوعٍ وخنوعٍ لدولةٍ أو أكثر من دول الأرض، يتطفلون عليهم في القوة والمال. وحال دولتهم الحالية المغتصبة لفلسطين ماثلة للعيان لا يحتاج إلى برهانٍ، وإنَّ أضعف الأعداء من كان خالياً من القوة الذاتية والقوة المستندة إليه والمؤونة المالية المغطاة من إمكانياته، وهذا ما يفتقده يهود والوقائع تثبت ذلك، والقضاء عليهم قريب بإذن الله بقرب عودة الخلافة للوجود، وقرب استئناف الجهاد عبر الحدود (( لنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112))) آل عمران/آية111-112.

الخلاصة

وجملة القول إن من تدبر هذه الآيات العظيمة التي ذكرناها سواء ما نزل منها في مكة بالنسبة لرؤوس الكفر هناك قبل قيام الدولة الإسلامية أو ما نزل منها في المدينة بالنسبة ليهود بعد قيام الدولة الإسلامية، فإن المتدبر لها يرى أن الله سبحانه قد وصف واقعهم وبيّن طبائعهم بياناً لا يقف عند الإجمال بل يدخل في التفاصيل في أمورٍ كثيرةٍ منها، وكلّ ذلك ليتبين المسلمون، وبخاصة حملة الإسلام منهم العاملون لاستئناف الحياة الإسلامية في الأرض، ليتبينوا أن معرفة الواقع السياسي للقوى المؤثرة أفراداً كانوا أو جماعاتٍ أو دولاً أمر مهم ومهم للتعامل معهم بما يقتضيه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما أرشدا إليه ليكون المسلم واعياً على ما يجري حوله كيّساً فطناً وليس خباً ولا الخبّ يخدعه، ولا تكسره المصائب ولا تهزه النوائب، لا يُؤخَذ على حين غرةٍ، ولا يطعن في الظهر وهو غافلٌ لا يدري من أي اتجاه تأتيه السهام أو تصيبه السيوف، بل يهتم بأمر المسلمين، ويقف على ثغرةٍ أو فوقها من ثغر الإسلام، لا يؤتى من محذره ولا من مأمنه، ثابتٌ على الحقّ كالطود بإذن الله (( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ )) إبراهيم/آية27.