طباعة
المجموعة: كيف أقيمت دولة الإسلام ؟| الطريقة الفريضة

دولة الإسلام -دولة الخلافة- كيف أقيمت وكيف تستأنف؟

 اتصل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نبأ من بلاد الروم بأنها تهيئ جيشاً لغزو بلاد العرب الشمالية غزواً ينسي الناس انسحاب المسلمين الماهر في مؤتة، اتصل هذا النبأ مجسماً أيما تجسيم ،  فقرر أن يواجه هذه القوة بنفسه، وهيأ خطة للقضاء عليها قضاءً يمحو في نفوس سادتها كل أمل في غزو المسلمين، أو التعرض لهم، وكان الوقت أواخر الصيف وأوائل الخريف، والقيظ قد اشتدت حرارته، والشُّقة من المدينة إلى بلاد الشام طويلة شاقة، تحتاج إلى الجَلَد وإلى المؤونة، وإلى الماء.

وإذَنْ لا بد من مطالعة الناس بهذا الأمر وعدم كتمانه عنهم، ولا بد أن يعلمهم بصراحة أنه يعتزم السير إلى الروم لقتالهم،  وهذا يخالف خطته صلى الله عليه وآله وسلم التي كان يرسمها في سابق غزواته ،  فإنه كان يخفي خطته، ويخفي الجهة التي يسير إليها، وكان يتوجه في كثير من الأحيان بجيشه إلى غير الناحية التي يقصد إليها تضليلاً للعدو، حتى لا يفشو خبر مسيرته. أما هذه المرة فإنه أعلن من أول يوم أنه يريد أن يذهب لقتال الروم في حدود بلادهم، لذلك أرسل في القبائل جميعاً يدعوها للتهيؤ، كيما يعد أكبر جيش يمكن إعداده، وأرسل إلى أغنياء المسلمين يأمرهم بالإنفاق مما آتاهم الله من فضله، لتجهيز جيش كثير العدد والعدة، وأخذ يحرض المسلمين على الانضمام  لهذا الجيش.

الإيمان مواقف

فاستقبل المسلمون هذه الدعوة استقبالاً متبايناً ؛ أما الذين أقبلوا على الإسلام بقلوب ممتلئة هدى ونوراً فقد أقبلوا يلبون دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خفافاً مسرعين، ومنهم الفقير الذي لا يجد الدابة يحمل نفسه عليها، ومنهم الغني يضع ماله بين يديه يقدمه في سبيل الله عن رضاً واطمئنان، ويقدم نفسه بشوق طامعاً في الاستشهاد في سبيل الله، وأما الذين دخلوا في دين الله رغباً ورهباً، رغباً في مغانم الحرب ورهباً من قوة المسلمين، فقد تثاقلوا وبدأوا يلتمسون الأعذار وجعلوا يتهامسون فيما بينهم، ويهزأون بدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إياهم لهذا الغزو النائي،  في ذلك الجو المحرق. هؤلاء هم المنافقون. وقد كان يقول بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر، فنـزل قوله تعالى: ((وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ؛ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)) وقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للجد بن قيس أحد بني سلمة: «يا جد هل لك العام في جلاد بني الأصفر»، فقال: يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتنّي، فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه نزلت هذه الآية: ((وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)).

هم العدو فاحذرهم

ولم يقف المنافقون عند حد تباطئهم عن الخروج للقتال بل صاروا يحرضون الناس على التخلف عن القتال، فرأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذهم بالشدة، وأن يضرب على أيديهم بكل قسوة، فقد بلغه أن ناساً منهم يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس، ويلقون في نفوسهم التخاذل والتخلف عن القتال، فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه،  فحرق عليهم بيت سويلم، ففر أحدهم من ظهر البيت فانكسرت رجله، واقتحم الباقون النار وفروا. فكان ذلك درساً لغيرهم لم يجرؤ أحد بعدها على مثل فعلهم.

النصر يبدأ في الإعداد

وقد كان للحزم والشدة اللذين سلكهما الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أثر في تجهيز الجيش، حتى اجتمع جيش عظيم بلغت عِدته ثلاثين ألفاً من المسلمين، وقد سمي هذا الجيش جيش العسرة، لأنه كلف في شدة القيظ لملاقاة عدو كبير، ولخوض معركة بعيدة عن المدينة، والنفقات الكبيرة التي كان يتطلبها تجهيز مثل هذا الجيش. وقد اجتمع هذا الجيش وقام أبو بكر يؤم الناس بالصلاة في انتظار عود الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من تدبير شؤون المدينة أثناء غيبته، وقد استخلف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة محمد بن مسلمة، وخلف علي بن أبي طالب على أهله وأمره بالإقامة فيهم، وأصدر ما رأى أن يصدر من الأوامر، ودبر ما ينبغي تدبيره من الأمور. ثم عاد إلى الجيش يتولى قيادته، وأمر فتحرك الجيش وثار النقع وصهلت الخيل واستعرض الجيش أمام أهل المدينة وارتقت النساء سقف البيوت يشهدن هذا الجحفل الجرار يتوجه مخترقاً الصحراء صوب الشام، مستهيناً في سبيل الله بالحر والظمأ والمسغبة. فحرك منظر الجيش وهو يتحرك صوب بلاد العدو يتقدمهم عشرة آلاف فارس حرك منظره بهذه القوة الهائلة بعض نفوس كانت تقاعست عن الانضمام إلى الجيش، فالتحقت بالجيش وانضمت إليه.

وسار الجيش ووصل منتصرا

وسار الجيش قاصداً تبوك، وكانت جيوش الروم معسكرة فيها تستعد لغزو المسلمين، فلما بلغها أمر جيش المسلمين وقوته، وكثرة عدده، وتذكرت حرب المسلمين في مؤتة، وما كانوا عليه من استبسال، ولم يكن جيشهم في هذا العدد الضخم وهذه العدة الهائلة، وزادهم خوفاً أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان على رأس الجيش، فخافوا من ذلك كثيراً فآثروا الانسحاب بجيوشهم إلى داخل بلاد الشام ليحتموا بحصونهم، وتركوا تبوك كما تركوا جميع حدود الشام من جهة الصحراء، وأمعنوا في انسحابهم إلى داخل البلاد. فلما عرف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر انسحاب الروم ونمي إليه ما أصابهم من خوف سار حتى وصل تبوك، واحتلها وعسكر فيها، ولم ير محلاً لتتبع الروم داخل بلاد الشام في ذلك الوقت. فأقام في تبوك مدة تقرب من شهر يناجز من شاء أن ينازله أو يقاومه من أهل تلك المنطقة، ووجه رسالة إلى أمراء القبائل والبلدان التابعين للروم، فأرسل رسالة إلى يحنة بن رؤبة صاحب أيلة، وإلى أهل جرباء، وأهل أذرح أن يذعنوا أو يغزوهم، فقبلوا الخضوع، وقدموا الطاعة، وصالحوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأعطوه الجزية.

وحرق مسجد المنافقين

ثم عاد إلى المدينة فوجد المنافقين قد استغلوا غياب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن المدينة، وأخذوا ينفثون سمومهم، ويركزون قوتهم ليغدروا بالمسلمين، وكان قد بنى جماعة منهم مسجداً بذي أوان بينه وبين المدينة نحو ساعة، وإلى هذا المسجد كان يأوى المنافقون ويحاولون أن يحرفوا كلام الله عن مواضعه وأن يفرقوا بذلك بين المؤمنين ضِراراً وكفراً، وكانت هذه الجماعة التي بنت المسجد قد طلبت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل غزوة تبوك أن يصلي في المسجد فاستمهلهم حتى يعود، فلما عاد وعرف أعمال المنافقين، وأوحي إليه أمر المسجد وحقيقة ما قصد إليه من إقامته، أمر بإحراق المسجد. واشتد على المنافقين. فضرب بذلك مثلاً ارتعدت له فرائصهم، فخافوا وانزووا ولم تقم لهم بعدها قائمة. 

وبغزوة تبوك تمت كلمة ربك في شبه جزيرة العرب كلها، وأمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كل عادية عليها، وأقبلت وفود العرب على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تقدم الطاعة وتعلن لله الإسلام.