يُعد الاهتمام بالشؤون العامة أمراً شاقاً لا يُقبل عليه إلا القليلون في معظم الشعوب والأمم، وجعل الإسلام منزلة سيد الشهداء لمن قدم حياته لقوله كلمة الحق في وقتها ومكانها فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله»، وهذا ما يميز أهل الحق وكلمة الحق عن مَن يظهر للرائي أنه ممن يهتمون بالشأن العام، بينما هو انتهازي يلهث وراء مصالحه ومنافعه الشخصية.

فالاهتمام بالشؤون العامة الذي ينبع من الإحساس بالمسئولية عن الغير، فهذا لا يقوم به إلا من تاقت نفوسهم للكمال والذين لا يبالون بعواقب ومآلات ما يقومون به طالما هم مقتنعون به، والذي في الغالب يعرضهم للنقمة من أصحاب المصالح والنفوذ في السلطات الفاسدة القائمة في بلادنا.

ولهذا نسمع الحديث دائماً عن الأغلبية الصامتة أو حزب الكَنَبَة، وهم أصناف. منهم أولئك المنعزلون عن الواقع؛ الذين لا يتابعون ما يجري خارج حياتهم الخاصة، ومنهم الذين يتابعون ولكنهم يفضلون ألاّ يكون لهم أي دور فاعل أو مؤثر في تلك الأحداث سواء لفقدانهم الأمل بالتغيير أو على الأقل بالتأثير، أو لفقدانهم القدرة على العمل... وعلى أي حال فما حقيقة ذلك وحكمه في الإسلام

ومن الغريب على أمة كالأمة الإسلامية أن تكون نسبة العاملين فيها في المجال العام وخاصة المجال السياسي؛ الذين يسعون لتغيير حقيقي جذري في الأمة، تكون نسبتهم متدنية، وذلك لما امتازت به أمة الإسلام عن غيرها من الأمم ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) وهذا يستوجب بحث أسباب هذه الحالة الشاذة لعلاجها العلاج الذي يعيد للأمة حيويتها وريادتها. ولعل أبرز أسباب ذلك ما يلي:

1- اليأس الذي تسرب إلى الأمة في قدرتها على التغيير، نظراً لطول العهد بها في ظل أنظمة سياسية قمعية، تمنع أي عمل سياسي خارج إطار سياستها النفعية القائمة على المنافع الشخصية.

2- ما كاد أن يصبح عرفاً في واقعنا السياسي المزري من أن السياسة خداع ودجل وتضليل، وأنه لا بد من إبعاد الدين عنها، إذ لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين!.

3- ما تراه الأمة من سياسة قطع الأعناق والأرزاق التي تتبعها الحكومات تجاه أصحاب دعوات التغيير.

4- سياسة الأنظمة الطاغوتية التي تعمل على توجيه الناس وتثقيفهم بثقافة الرضا بالأمر الواقع، وإبعادهم عن عقيدتهم وإيمانهم.

قد تكون الأحداث الأخيرة التي عاشتها الأمة في ظل الثورات قد قلصت من هذه الفئة الصامتة، بعد أن لمست أن التغيير ممكن.

لكن يبدو أن هناك من يريد أن يعيد هؤلاء مرة ثانية إلى عزلتهم بإفشال تلك الثورات، فمما لا شك فيه أن تلك الثورات لم تنجح في إحداث تغيير حقيقي كانت تتوق إليه الأمة بكل مكوناتها، حتى أولئك الذين نأوا بأنفسهم عن القيام بأي عمل يصب في هذا الإطار.

لقد حرص الإسلام على أن يقضي على هذه السلبية الموجودة عند كثير من الناس في أغلب المجتمعات، ولأن الإسلام دين متميز بأفكاره وأحكامه عالج هذه المسألة بجملة من الأحكام منها:

1- جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لمَ يَسْتَطِعْ فَبلِسانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ اْلإِيمَانِ» [رواه مسلم] وبه فضلها الله سبحانه وتعالى على سائر الأمم ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون).

2- جعل النصيحة للمسلمين من أهم الفرائض ومن أهم الخصال الحميدة بين المسلمين، عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم» متفق عليه.

3- جعل ذمة المسلمين واحدة، يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم.

4- جعل الفتنة لا تصيبن الذين ظلموا خاصة، بل تقع على الجميع، ذلك أن من لم يعمل على وأدها واكتفى بمجرد التفرج، كان مشاركاً فيها بسكوته، وهذا أثم عظيم، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اللَّهَ عز وجل لا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ، فَلا يُنْكِرُونَهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ» [رواه أحمد].

5- عدّ الإسلام الشخص الذي لا يبالي بما عليه الناس بأنه إمعة، ونهانا أن نكون كذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا» [رواه البزار].

ولعل من أكثر المفاهيم المغلوطة التي ابتليت بها الأمة، قول البعض إنما عليَّ بنفسي ولا شأن لي بمن ضل، فأنا والحمد لله مقيم للصلوات ولا أكل الربا وأتحرى الحلال والحرام، ثم تراه يستشهد على قوله هذا بالآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾، ولكن معنى الآية غير ما تبادر إلى ذهن القاعدين الذين يبحثون عن المبررات، بل هي تقول لهم، إذا قمتم بواجب النصيحة وأصر المنصوح على الاستمرار في ظلمه وفساده، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ومن وسعها أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أما إذا قعدتم عن النصيحة فهذا هو الفساد بعينه.

ومن هنا لا عذر لهؤلاء القاعدين الصامتين وهم من أمة القرآن التي جعل الله فيها الخيرية، كونها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لا عذر لهم في الصمت والقعود، وهم يرون حكاماً ظالمين مستحلين لحرمات الله، ناكثين لعهود الله، عاملين في عباد الله بالإثم والعدوان.

فلنهبَّ جميعاً للانضمام للمخلصين في هذه الأمة الذين يصلون الليل بالنهار للنهوض بها، من خلال العمل على استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الإسلامية، التي بها يتم التغيير الحقيقي لواقعنا السيئ الذي لا يرضى عنه الله ورسوله.