طباعة
المجموعة: كيف أقيمت دولة الإسلام ؟| الطريقة الفريضة

 دولة الإسلام -دولة الخلافة- كيف أقيمت وكيف تستأنف؟كان من أثر رد الملوك خارج جزيرة العرب أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن رجع السفراء من تبليغ الدعوة هيأ الجيش للجهاد خارج جزيرة العرب، وأخذ يترقب أخبار الروم والفرس، وكان الروم ملاصقين في حدودهم لحدوده، ولذلك كان يتسقط أخبارهم، وكان يرى أن الدعوة الإسلامية ستنتشر انتشاراً كبيراً حال خروجها من جزيرة العرب لعلم الناس بها. ولذلك كان يرى أن بلاد الشام هي المنفذ الأول لهذه الدعوة. ولما أمن من جانب اليمن باذعان عامل كسرى عليها لدعوته، فكر في إرسال جيش إلى بلاد الشام لقتالهم، وفي شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة، أي بعد صلح الحديبية ببضعه أشهر، جهز ثلاثة آلاف مقاتل من خيرة أبطال المسلمين، ووضع عليهم زيد بن حارثة قائداً لهم وقال: «إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس».

من السياسة الحربية في الإسلام

وخرج الجيش ومعه خالد بن الوليد،وكان قد أسلم بعد معاهدة الحديبية، وسار معهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى ظاهر المدينة، وأوصاهم ألا يقتلوا النساء ولا الأطفال ولا المكفوفين ولا الصبيان، وألا يهدموا المنازل ولا يقطعوا الأشجار، ودعا هو والمسلمون معه للجيش قائلين: «صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا سالمين». وسار الجيش ووضع أمراؤه الخطة بأن تكون حرباً خاطفة، بأن يأخذوا القوم من أهل الشام على غرة منهم كما هي عادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزواته، فينتصرون ويرجعون.

وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة

وساروا على هذه الخطة، ولكنهم لما بلغوا معان علموا أن مالك بن زافلة قد جمع لهم مائة ألف مقاتل من قبائل العرب، وأن هرقل جاء على رأس مائة ألف مقاتل، فراعهم هذا النبأ وأقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وفيما هم صانعون أمام هذا العدد الهائل من الجنود، وأمام هذه القوة الكبيرة، وكان الرأي السائد بينهم أن يكتبوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبرونه بعدد العدو. فإمّا أن يمدهم بالرجال أو يأمرهم بما يرى، غير أن عبد الله بن رواحة قال لهم: (يا قوم والله إن الذي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة .. وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور، وإما شهادة).

وامتدت حماسة الإيمان إلى الجيش، ومضوا حتى وصلوا إلى قرية مشارف، فلقيتهم هناك جموع الروم فانحازوا عن مشارف إلى مؤتة، وتحصنوا بها، وهناك بدأت بينهم وبين الروم معركة من أشد المعارك رهبة، فيها الموت الأحمر يَفْغَرُ فاه، فإنها كانت بين ثلاثة آلاف فقط من المؤمنين الذين يطلبون الموت والشهادة. وبين مائة ألف أو مائتي ألف من الكافرين الذين جمعوا أنفسهم للقضاء على جيش المسلمين.

وبدأت رحى الحرب بين الفريقين حامية الوطيس، فحمل زيد بن حارثة راية النبي صلى الله عليه وآله وسلم واندفع بها في صدر العدو، وهو يرى الموت أمامه ولكنه لا يخافه، لأنه استشهاد في سبيل الله؛ ولذلك تقدم بجرأة تفوق حد التصور، إذ أخذ يحارب حرب المستميت حتى مزقته رماح العدو. فتناول الراية جعفر بن أبي طالب، وكان شاباً جميلاً شجاعاً لا يزال في الثالثة والثلاثين من عمره، فقاتل قتال المستميت، ولما رأى العدو قد أحاط بفرسه عقرها واندفع وسط القوم يضرب بسيفه، فهاجمه رجل من الروم وضربه ضربة قطعته نصفين فقتل. فأخذ الراية عبد الله بن رواحة، ثم تقدم بها وهو على فرسه وتردد بعض التردد، ولكنه مضى وقاتل حتى قتل. فأخذ الراية ثابت بن أقرم، وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فأخذ الراية وداور بالمسلمين حتى ضم صفوفهم ووقف من العدو عند حد المناوشات البسيطة حتى أقبل الليل، وتحاجز الجيشان حتى الصباح.

وأثناء الليل وضع خالد خطة محكمة ينسحب بموجبها دون قتال بعد أن رأى ضخامة عدد العدو وضآلة عدد جيشه، وبموجب هذه الخطة وزع عدداً غير قليل من الجيش في المؤخرة وأمرهم أن يحدثوا من الجلبة والضوضاء عند الصباح ما يوهمون به عدوهم أنهم مدد جاء الجيش من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولما فعلوا ذلك ارتاع العدو وتقاعس عن مهاجمة المسلمين، وفرحوا لعدم مهاجمة خالد لهم، ثم ما لبث أن رجع جيش المسلمين إلى المدينة منسحباً من الميدان بموجب الخطة التي وضعها خالد، وبهذا رجعوا غير منصورين وغير مهزومين، ولكنهم أبلوا في الحرب بلاء حسناً.

(إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ)

لقد كان يعلم قواد هذه المعركة وجنودها الأبطال أن كلاً منهم مُقْدِمٌ على الموت. بل كان يرى الموت أمامه مقبلاً عليه، ولكنهم خاضوا المعارك وقتلوا، لأن الإسلام يأمر المسلم أن يقاتل في سبيله حتى يَقتُل ويُقتَل، وأن هذا القتال هو التجارة الرابحة لأنه الجهاد في سبيل الله: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ولذلك قاتل هؤلاء رغم تحققهم من الموت، ولأن المسلم إنما يقاتل إذا كان لا بد من القتال، بغض النظر عما إذا كان الموت محققاً أو غير محقق، وأن الأمور لا تقاس في القتال والجهاد بعدد العدو وعدته، ولا بكثرته وقلته، وإنما تقاس بالنتائج التي تحصل منها بغض النظر عما تتطلبه من تضحيات، وما يرجى فيها من نجاح.

فحرب المسلمين للروم في مؤتة كانت تفرض على المسلمين القتال، وكانت تفرض على قواد الجيش أن يخوضوا المعركة التي جاءوا من أجلها، ولو كان الموت الأحمر جاثماً أمامهم، فما ينبغي للمسلم أن يخاف الموت، وما ينبغي للمسلم أن يحسب الحساب لشيء في سبيل الله. وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أن إرسال هذا الجيش لدولة الروم يهاجمها به على حدودها مخاطرة أيما مخاطرة، ولكنها مخاطرة لا بد منها لإرهاب الروم حين يرون قتال المؤمنين واستماتتهم، مهما يكن عددهم قليلاً. وكانت مخاطرة لا بد منها ليرسم للمسلمين طريق الجهاد لنشر الإسلام وتطبيقه فيما يليهم من البلاد، وكانت مخاطرة ناجحة لأنها كانت طليعة لغزوة تبوك وضربة للروم أرهبتهم أن يواجهوا المسلمين بعدها، حتى كان فتح الشام.