طباعة
المجموعة: كيف أقيمت دولة الإسلام ؟| الطريقة الفريضة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آل بيته وصحبه، ومن ترسّم خطاه وحمل دعوته إلى يوم الدين، وبعد

نشأت منذ حوالي عقديْن ظاهرة المراجعات الفكرية والفقهية لدى عددٍ من الحركات الإسلامية، وذلك بعد ضربات شديدة تعرّضت لها من قبل أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية، أو قوات الاحتلال. وقد برزت هذه الظاهرة لدى الجماعات التي تتبنّى العمل المسلح للتغيير أو التحرير، حيث كشفت هذه المراجعات عن نقاط ضعفها في الفكر والمنهج، وهشاشة بنائها الفكري والشرعي، وأظهرت مدى نجاح الأنظمة الحاكمة في حرفها واحتوائها، وذلك من خلال سياسات البطش والقمع والحصار والعزلة، أو فتح الباب لها للمشاركة السياسية ومنحها الغطاء والشرعية تارة أخرى.

مراجعة الفكر والمنهج إيجابية ولكن...!

والحقيقة أن مراجعة الفكر والمنهج هي بحدّ ذاتها أمر إيجابي، ولازم ضروري للحركة الإسلامية أثناء السير في عملية التغيير، وذلك لاستدراك الأخطاء وللتثبّت من صحة فهم نصوص الشرع وأحكامه، ودقة انطباقها على واقع الأمة والمجتمع والدولة في بلاد المسلمين في هذا الزمان، حيث إن العصمة هي للنبي وحده عليه السلام، والقدسية هي فقط لنصوص الوحي في الكتاب والسنة. أما فهم النصوص وإنزالها على الوقائع الحادثة والمستجدة فقد يعتريه الخطأ، وذلك بحكم طبيعة الإنسان من حيث تأثير الميول والظروف والانفعالات في حكمه على الأشياء، وأثر تفاوت المعارف وقوة الإدراك في الاستنباط وفقه الأحكام. فالمراجعة من هذه الناحية مطلوبة، لا سيما إذا كانت تتعلق بأوضاع وتحوّلات تاريخية لم يسبق للأمة الإسلامية أن واجهتها، أو عالجتها فكرياً وتشريعياً وسياسياً، مثل مسألة تحوّل الدار من دار إسلام إلى دار كفر، والعيش في مجتمع غير إسلامي، وخصوع المسلمين لقوانين ودساتير وضعية وثقافات وفلسفات غريبة عن ثقافة المسلمين وبيئتهم وتاريخهم. ومن هنا كانت المراجعة أمراً إيجابياً وضرورياً لأنها تساعد على استدراك الأخطاء وتنقية المفاهيم وتركيزها، وتؤدي إلى وضوح الطريق، وتبعث الاطمئنان إلى استقامة المنهج، ومن شأن المراجعة النقدية الموضوعية أن تزرع في النفوس النزوع إلى الكمال من خلال البحث والتنقيب عن الحقيقة أنى كانت، والتزام الحق أينما كان، وكما قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فإن "الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، فإن الحق قديم".

إلا أن ظاهرة المراجعات لدى العديد من الحركات الإسلامية، مع الأسف، ليست كذلك. فهي لا تتعلق باستدراك الخطأ في الجزئيات أو تقويم السير في الفرعيات، أو التثبت من الأدلة الشرعية ومراجعة فهم النصوص واجتهادات الفقهاء، وملاحظة مدى دقة إنزال الأحكام الشرعية على الوقائع المستجدة في هذا الزمان. بل هي في حقيقتها الواضحة انقلاب تام على القواعد الأساسية التي يقوم عليها كيان الحركة، وهي: فكرتها الأساسية، والغاية التي تسعى لتحقيقها، ومنهاجها في التغيير. ولذلك كانت ظاهرة المراجعات سلبيّة وخطيرة على الأمة، وعلى الدعوة الإسلامية، وعلى العمل الحزبي (وإن كنا نسجّل لبعضها نقطة إيجابية لا تقل خطورة، وهي الانتهاء عن قتل المسلمين من مخالفين أو موظفي الشرطة والجيش). والواقع أن هذه المراجعات تمثّل نجاحاً لأنظمة الحكم القائمة في بلاد المسلمين، التي تنفّذ سياسة الاحتواء هذه المسمّاة بالمراجعات، ولدول الغرب التي ترسم هذه السياسات.

ما وراء الردة السياسية

ولا يخفى على الناظر أن الغاية من تشجيع ظاهرة الردة السياسية هذه لدى الحركات الإسلامية هي سوق الشعوب إلى أحضان أنظمة الجور الحاكمة في بلاد المسلمين، بعد أن انكشف عوارها وبان فسادها وأوشكت على السقوط، فشرعت هذه الحركات في عملية ترميم للثقة بالنظم السياسية الفاسدة، ومحاولة لبعث شرعيتها الموءودة. والأنكى من ذلك هو أنه حين ثارت الشعوب على طغاتها، بعد طول رقود، وحسمت أمرها في رفع ظلم جلاديها، تداعت تلك الحركات التائبة والحركات المعتدلة من كل حدب وصوب إلى قصعة السلطة، تحاور الغرب وتناور الشعب للجلوس على كرسي الحكم. أما ثالثة الأثافي، فكانت بدايتها في أرض الكنانة الطيبة، حين قررت أمريكا انتهاء الفصل الأول من مسرحية "ديمقراطية الإسلاميين"، فأسقط في أيدي هؤلاء، ورفضوا تغيير الأدوار، ظناً منهم أن تغيير فصول العرض المسرحي لا يجوز فيه تغيير الأدوار! واعتقاداً منهم أن "الشرعية الديمقراطية" لا مراجعة فيها، ولا تراجع؛ خلافاً للدعوة الإسلامية..!!

تائبون أم تائهون؟ معتدلون أم متطرفون؟

لقد غفل هؤلاء التائبون، وأولئك المعتدلون، عن حقيقة نبوية مفادها أن النبي، صلى الله عليه وسلم، المؤيّد بالوحي من ربه، اختط طريقاً مختلفاً في حمل الدعوة الإسلامية لتغيير المجتمع الجاهلي في مكة، وهو طريق مناقض لنهج ديمقراطية الغرب المستعمر، ومخالف لنهج العمل المسلح والاقتتال بين المسلمين. فالحقيقة التي لا مراء فيها تقرر أنه عليه السلام لم يقبل المشاركة في الحكم في مكة، بل رفض رفضاً قاطعاً عروض تقاسم السلطة التي عرضها عليه زعماء قريش، حيث قالوا له: «وإن جئت بما جئت به تبتغي ملكاً سوّدناك علينا حتى لا نقضي أمراً دونك»، (سيرة ابن هشام). وحينما طلب منه الصحابة أن يأذن لهم بحمل السلاح، رفض رفضاً صريحاً وقال: «لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِك»، (سيرة ابن هشام)، مع أن الأمر كان يتعلق بمشركين، لا مسلمين معصومي الدم!

بالطريق المستقيم يظهر المنحرف

إن الطريق الذي أختطه الرسول، عليه السلام، في حمل الدعوة الإسلامية للوصول بها إلى تأسيس المجتمع الإسلامي وإقامة الدولة الإسلامية، يتلخص بإيجاز في الآتي:

هذا هو الطريق ..

بناء كتلة إسلامية، تحمل الدعوة الإسلامية للناس، فتشرح فكرتها وغايتها، وتثقّف المسلمين بأفكار الإسلام وأحكامه، وتصارع أفكار الكفر، لا سيما أفكار الغرب وثقافته، وتكافح الحكام فتحاسبهم إن هضموا حقوق الناس، وتحاسبهم إن خالفوا أحكام الإسلام، وتكشف تبعيتهم للمستعمر الكافر، إن تآمروا على الأمة وقضاياها. حتى إذا تحقق الوعي العام على الفكرة الإسلامية، ووجد رأي عام مؤيد للدولة الإسلامية ونظامها، جمعت الكتلة الإسلامية ما يلزم من تأييد أهل القوة والنفوذ، لأخذ النصرة القادرة على إيصالها للحكم، فتقوم عندها بتطبيق الإسلام وحده تطبيقاً كاملاً - في الدستور وسائر القوانين وأجهزة الدولة ومؤسساتها -، في قطر أو أقطار، ثم تبدأ العمل لاستئناف الحياة الإسلامية في جميع البلدان الإسلامية لضمّها وتوحيدها تحت راية الإسلام، وإمارة المؤمنين، في دولة خلافة راشدة.

هذا هو الطريق الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قد يبدو شاقاً وطويلاً، لكنه يقوم على الشرع؛ شرع النبي عليه السلام، لا ديمقراطية روسو ومونتسكيو! ومن سار على شرع الله المستقيم، فالله ناصره لا محالة. وقد يكون هذا الطريق خطراً ومكلفاً، لكن جزاءه جنة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين؛ لا حفنة مقاعد برلمانية، أو كرسي معوّج يهوي بأصحابه - متى شاء السيد الأميركي - إلى مكان سحيق.

وختاماً، نسأل الله تعالى الصدق والثبات، وحسن الخاتمة وحسن القبول، لنا ولجميع المسلمين، أمة وأفرادا وجماعات، فقد مدح الله سبحانه الصادقين الثابتين على الحق حتى يلقَونه، فقال ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ (الأحزاب آية 23)