طباعة
المجموعة: كيف أقيمت دولة الإسلام ؟| الطريقة الفريضة

دخل دولة الإسلام المسلمون في الحرب مع قريش، واشتبكوا معهم في أول معركة وهي معركة بدر، فانتصر بها المسلمون انتصاراً مؤزراً، وكان من أثر هذا النصر زلزلة قريش زلزلة كبرى أطارت صوابها، وتطهير المدينة من وساوس اليهود وفتنتها، وإجلاء بعضهم ومهادنة بعضهم الآخر، وازدياد قوة المسلمين ومنعتهم.

إلاّ أن قريشاً لم يهدأ لها بال، فمنذ بدر وهي تعد العدة لغزو المسلمين والانتقام منهم، وليكون لها يوم بيوم بدر، فكانت موقعة أحد، وانتصرت فيها قريش بسبب مخالفة الرماة لأوامر القيادة.  وانكسر فيها المسلمون. وعادت قريش ممتلئة النفس غبطة وسروراً بما زال عنها من عار بدر، ورجع المسلمون إلى المدينة مهزومين، وكانت تظهر عليهم آثار الهزيمة، رغم مطاردتهم للعدو بعد المعركة حتى حمراء الأسد. وكان من جراء انكسار المسلمين، أن تنكر لهم الكثير ممن في المدينة، كما تنكرت لهم بعض قبائل العرب. فإن اليهود والمنافقين في المدينة كانوا بعد بدر وشدة المسلمين معهم قد خضعوا لسلطان المسلمين ودانوا لهم، وكذلك كانت قبائل العرب خارج المدينة، قد داخل نفوسها الرعب من قوة المسلمين، ولكن كل ذلك تغير بعد أحد، فالعرب الذين يقطنون خارج المدينة صاروا يفكرون في معارضة محمد ومناوأته، واليهود في المدينة والمنافقون أيضاً صاروا يتحرشون بالمسلمين ويناوؤونهم، لذلك كله حرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن يقف من أخبار أهل المدينة ومن أخبار القبائل العربية خارجها، على ما يمكنه من استعادة مكانة المسلمين وهيبتهم في النفوس، وأخذ يعمل جاهداً لإزالة آثار هذه الهزيمة، بالبطش في كل من تحدثه نفسه باستصغار المسلمين،  أو النيل منهم. 

فقد بلغه بعد شهر من أحد، أن بني أسد يريدون مهاجمة المدينة، ليغنموا من غنم المسلمين التي ترعى حول المدينة، فأراد أن يهاجمهم في عقر دارهم قبل أن يهاجموه، ولذلك دعا إليه أبا سلمة بن عبد الأسد، وعقد له لواء سرية تبلغ عدتها مائة وخمسين، فيهم من خيرة أبطال المسلمين عدد كبير، وكان من بينهم أبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وأسيد بن حضير، وغيرهم وأمرهم بأن يسيروا ليلاً، وأن يستخفوا نهاراً، وأن يسلكوا الطريق غير المطروق، حتى لا يطلع أحد على خبرهم، ليفاجئوا العدو على غرة منه، وسار أبو سلمة حتى جاء بني أسد، وأحاط بهم في عماية الصبح، وحمل عليهم وحض رجاله على الجهاد فأوقعوا بهم حتى هزموهم وانتصروا عليهم وأخذوا أموالهم غنائم ورجعوا إلى المدينة ظافرين، وقد أعادوا إلى النفوس هيبة المسلمين وسطوتهم. 

ثمّ بلغ الرسولَ عليه السلام أن خالد بن سفيان الهذلي مقيم بعرنة أو نخلة يجمع النّاس ليغزو المدينة، فدعا إليه عبد الله بن أنيس وبعثه يتجسس حتى يقف على جلية الخبر، فسار عبد الله والتقى بخالد، فسأله من الرجل؟ فقال عبد الله: أنا رجل من العرب سمع بجمعك لمحمد فجاءك لذلك، فلم يخف خالد أنه يجمع الجموع ليغزو المدينة، فما كان من عبد الله إلاّ أن اغتنم فرصة عزلته عن النّاس، فاستدرجه في السير حتى إذا مكنته الفرصة حمل عليه بالسيف فقتله، وعاد إلى المدينة وأخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الخبر. وبقتله هدأت بنو لحيان من هذيل، وأمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شر غزوه وجمعه العرب لقتاله. وهكذا عالج القبائل العربية خارج المدينة. إلاّ أن هذه المعالجة وإن كانت أفادت في منع العرب من مهاجمة المدينة، إلاّ أنها لم تقض على استهانة العرب بسلطان المسلمين بعد أحد، فقد وفد على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رهط من قبيلة تجاور هذيلاً، وقالوا له إن فينا إسلاماً، فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرؤوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث معهم ستة من أصحابه، وساروا معهم حتى بلغوا ماء لهذيل بناحية تدعى الرجيع، فغدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلاً، وفوجيء المسلمون الستة بالرجال في أيديهم السيوف يغشونهم، فأخذ المسلمون سيوفهم، فقاتلوا حتى قتل ثلاثة منهم واستسلم ثلاثة فأخذتهم هذيل أسرى، وخرجت بهم إلى مكة تبيعهم فيها، وبينما هم في الطريق اغتنم أحد الثلاثة وهو عبد الله بن طارق فرصة غفلة القوم، وانتزع يده من غل الأسر وأخذ سيفه ليقاتل، ولكنهم لم يمكنوه بل قتلوه، وأخذوا الأسيرين وباعوهما من أهل مكة. أما أحدهما وهو زيد بن الدثنة فقد اشتراه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف، فلما قدم زيد ليقتل سأله أبو سفيان: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمداً الآن عندنا في مكانك تضرب عنقه وانك في أهلك ؟ فقال زيد والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه واني جالس في أهلي.  فعجب أبو سفيان وقال: ما رأيت من النّاس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً. ثمّ قتل زيد. وأما الثاني وهو خبيب فقد حبس حتى خرجوا به ليصلبوه، فقال لهم: ان رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، فسمحوا له حتى صلى ركعتين وأتمهما وأحسنهما، ثمّ أقبل عليهم وقال: أما والله لولا أن تظنوا أني إنّما طولت جزعاً من القتل لاستكثرت من الصلاة، فرفعوه على خشبة. فلما أوثقوه إليها نظر إليهم بعين مغضبة وصاح (اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يصنع بنا اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً) فارتجفوا من صيحته ثمّ قتلوه. فحزن الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم على هؤلاء الستة، وحزن المسلمون عليهم، وزاد في حزنهم استهانة هذيل بالمسلمين واستخفافهم بشأنهم، ففكر عليه السلام بهذا الأمر كثيراً، وأثناء تفكيره بذلك قدم عليه أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، فعرض الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم عليه الإسلام فلم يقبل ولكنه لم يظهر عداوة للإسلام وقال للرسول: يا محمد لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، ولكن الرسول خاف على أصحابه من أهل نجد أن يغدروا بهم كما غدرت هذيل، فلم يجب طلب أبي براء.   لكن أبا براء أقنعه حين أجار الذين يذهبون للدعوة، وقال للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا النّاس إلى أمرك، وكان أبو براء رجلاً مسموع الكلمة، لا يخاف على من يجيره أن يغدر به أحد. فبعث حينئذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنذر بن عمرو في أربعين رجلاً من خيار المسلمين، وساروا حتى نزلوا ببئر معونة، ومن هناك بعثوا إلى عامر بن الطفيل بكتاب مع رسول منهم، فلم ينظر عامر في الكتاب، بل قتل الرسول واستصرخ عليهم بني عامر كي يقتلوا المسلمين، فأبوا عليه ذلك، ووفوا بذمتهم، وبجوار أبي براء، ولكن عامراً استصرخ عليهم قبائل أخرى، وأحاط بالمسلمين وهم في رحالهم، فلما رآهم المسلمون أخذوا سيوفهم وقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، ولم ينج منهم سوى رجلين اثنين، فحزن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون على هؤلاء الشهداء، وتأثروا لذلك أشد التأثر.

ففكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وبالطريقة التي يعالج بها هؤلاء العرب لإعادة هيبة المسلمين في نفوسهم، ولكنه وقد رأى أن هذه الأعمال أثرت في داخل المدينة، رأى أن يعالج الأحوال الداخلية أولاً، ثمّ بعد أن يطمئن إلى معالجتها يعالج شؤون العرب والأمور الخارجية.

أما ما حصل في الداخل فإن المنافقين واليهود قد أضعفت أحد، وحوادث الرجيع، وبئر معونة، هيبة المسلمين في نفوسهم، وصاروا يتربصون بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم الدوائر، وكشف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نياتهم باستدراجهم حتى ظهرت مؤامرتهم ضده، فبعث محمد بن مسلمة إليهم وقال له: «إذهب إلى يهود بني النضير وقل لهم: إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي، لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي، فقد أجلتكم عشراً فمن رؤي بعد ذلك ضربت عنقه» وكاد بنوا النضير يخرجون لولا أن حرضهم عبد الله بن أبي على البقاء، وشجعهم حيي بن أخطب على أن يبقوا في حصونهم. وانقضت الأيام العشرة ولم يخرجوا من ديارهم، فقاتلهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى ضيق عليهم، فسألوه أن يؤمنهم على أموالهم ودمائهم وذراريهم حتى يخرجوا. فصالحهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على أن يخرجوا منها، ولكل ثلاثة منهم بعير يحملون عليه ما شاؤوا من طعام وشراب، ليس لهم غيره. فخرجوا وتركوا وراءهم جميع ما يملكون من أراض ونخيل وغلال وسلاح غنائم للمسلمين، وزعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المهاجرين، فقط ولم يعط الأنصار شيئاً سوى رجلين اثنين هما أبو دجانة وسهل بن حنيف ؛ لأنهما كان فقيرين كالمهاجرين. 

وبإجلاء بني النضير وتأديبهم حسم الرسول أمر السياسة الداخلية، وعادت هيبة المسلمين. فالتفت إلى السياسة الخارجية، فكان أن تحدى قريشاً في غزوة بدر الآخرة ،  فلم تجرؤ على مقابلته. وذلك حين استدار العام منذ أحد، ذكر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قوله أبي سفيان (يوم بيوم بدر والموعد العام المقبل) وذكر ضرورة مقابلة أبي سفيان فجهز المسلمين، واستعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن سلول، وسار بالمسلمين حتى نزلوا بدراً ينتظرون قريشاً، مستعدين لقتالها، وخرجت قريش مع أبي سفيان من مكة في أكثر من ألفي رجل، ولكنه ما لبث أن رجع ورجع النّاس معه، وأقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بدر ثمانية أيام متتابعة، ينتظر قريشاً، فلم تأت وبلغه نبأ رجعوها، فعاد بالمسلمين بعد أن ربحوا في تجارتهم أثناء إقامتهم في بدر، وعادوا منصورين وان لم يقاتلوا، ثمّ حمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على غطفان بنجد، ففروا من وجهه وتركوا أموالهم ونساءهم فغنمها المسلمون وعادوا للمدينة، ثمّ خرج إلى دومة الجندل على الحدود ما بين الحجاز والشام ليؤدب القبائل التي كانت تغير على القوافل، ولكنها لم تقابله وأخذها الفزع وولت من وجهه، وتركت أموالها فأخذها المسلمون وعادوا ظافرين. 

وبهذه الغزوات الخارجية، والتأديبات الداخلية في المدينة، استطاع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يعيد هيبة الدولة الإسلامية إلى نفوس العرب واليهود، وأن يمحو آثار هزيمة أحد محواً تاماً.