طباعة
المجموعة: كيف أقيمت دولة الإسلام ؟| الطريقة الفريضة

أصبح غير المسلمين يشعرون بقوة المسلمين، ويشعرون بأن هذه القوة هي قوة منبعثة من أعماق قلوب عرفت التضحية في سبيل الإسلام، وذاقت الأذى بسببه ألواناً، وكانت لا تنتظر عند الصباح مساء ولا عند المساء صباحاً، وها هي ذي اليوم تستمتع برؤية الدين يعلن أمره، وتنفذ أحكامه، وتعلو كلمته، وتستمتع بالسعادة.

 الناس يدخلون في دين الله أفواجا

غير أن أعداء الإسلام ساءهم ذلك، وظهرت آثار هذا على جيرانهم اليهود، فقد بدأت مخاوفهم وأخذوا يفكرون من جديد في موقفهم من محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعد أن رأوا ازدياد المسلمين في المدينة شوكة وقوة، وازدياد إقبال النّاس على الإسلام، وزادهم غيظاً إقبال بعض اليهود على الإسلام، وخافوا أن يمتد الإسلام إلى صفوفهم، وأن يفشو في جماهيرهم.

النفاق مطية الكفر وعلامة الهزيمة

ولذلك بدأوا يهاجمون الإسلام، عقائده وأحكامه، وبدأت حرب جدل بين المسلمين واليهود أشد لدداً وأكبر مكراً من حرب الجدل التي كانت بينهم وبين قريش بمكة، وفي هذه الحرب الفكرية كانت الدسيسة والنفاق والعلم بأخبار السابقين من الأنبياء والمرسلين سلاحاً بيد اليهود يهاجمون به محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته وأصحابه المهاجرين والأنصار.

فقد دسوا من أحبارهم من أظهر إسلامه، ومن استطاع أن يجلس بين المسلمين يظهر غاية التقوى، ثمّ ما يلبث بعد حين أن يبدي من الشكوك والريب، ويلقي على محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأسئلة ما يحسبه يزعزع في أنفس المسلمين عقيدتهم به، وبرسالة الحق التي يدعو إليها. وانضم إلى اليهود جماعة من الأوس والخزرج الذين أسلموا نفاقاً أيضاً ليسألوا وليوقعوا بين المسلمين. وبلغ الجدال بين اليهود والمسلمين حداً كان يصل أحياناً إلى الاعتداء بالأيدي مع ما كان بينهم من عهد.

ويكفي لتصوير تعنت اليهود وشدة خصومتهم في الجدل أنهم أخرجوا أبا بكر عن حلمه وهدوئه، مع ما كان عليه من دماثة الخلق، وطول الأناة، ولين الطباع. فقد رُوي أنه تحدث إلى يهودي يدعى فنحاص يدعوه إلى الإسلام فرد فنحاص بقوله: (والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وانه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنياً ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، وينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان عنا غنياً ما أعطانا الربا). وفنحاص يشير إلى قوله تعالى:  ]مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً[ لكن أبا بكر لم يطق على هذا الجواب صبراً، فغضب وضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال:  "والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك أي عدو الله". وهكذا اشتد الجدل بين المسلمين واليهود وأخذ أدواراً متعددة.

لعنة الله على الكاذبين

وفي هذا الوقت وفد على المدينة وفد من نصارى نجران عدتهم ستون راكباً، ولعل هذا الوفد إنّما جاء إلى المدينة حين علم بما بين المسلمين واليهود من خلاف طمعاً في أن يزيد هذا الخلاف شدة حتى يبلغ العداوة، وبذلك تنتشر النصرانية ويزول الدين القديم والدين الجديد اللذان يزاحمان النصرانية على زعمهم، وقد اتصل هذا الوفد بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وباليهود، وكان النبي ينظر إليهم وإلى اليهود بأنهم أهل كتاب فيدعوهم جميعاً للإسلام، ويتلو عليهم قوله تعالى: ]قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ[. ويسأله اليهود والنصارى عمن يؤمن بهم من الرسل ، فيتلو عليهم قوله تعالى: ]قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[ فلا يجدون ما يقولونه له وتدفع الحجة نفوسهم ويظهر الحق، لكنهم لم يؤمنوا حرصاً على مكانتهم، حتى أن بعضهم صرح بذلك. فقد روي أن أبا حارثة وكان من وفد نجران، وكان أكثر نصارى نجران علماً ومعرفة قد أدلى إلى رفيق له باقتناعه بما يقول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلما سأله رفيقه فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ كان جوابه: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلاّ خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى. مما يدل على أن عدم إيمانهم كان مكابرة وتعنتاً. ثمّ إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دعا النصارى إلى المباهلة وتلا عليهم قوله تعالى: ]فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ[ فتشاوروا ثمّ أعلنوا أنهم رأوا ألا يباهلوه وأن يتركوه على دينه ويرجعوا على دينهم، ولكنهم طلبوا إليه أن يبعث معهم رجلاً يحكم بينهم في أشياء اختلفوا عليها من أموالهم، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح ليقضي بينهم بالإسلام فيما اختلفوا فيه. 

إذا ظهر الحق زهق الباطل

وهكذا قضت قوة الدعوة الإسلامية، وقوة الفكر الإسلامي، والحجة البالغة التي ظهرت على جميع المجادلات الكلامية التي أثارها اليهود والمنافقون والنصارى، واختفت تلك الأفكار غير الإسلامية جميعها، ولم يبق إلاّ الإسلام يناقش في فهم أحكامه، وفي الدعوة إليه، فتركز الإسلام ونشر لواؤه من ناحية الفكر ومن ناحية الحكم. إلاّ أن نفوس المنافقين واليهود ظلت منطوية على كراهية المسلمين، وظلت تحمل الحقد عليهم والبغض لهم، غير أن تركز سلطان الإسلام في المدينة، وتركز المجتمع فيها طغى على كل شيء. وكان للسرايا المتلاحقة وللقوة التي ظهرت أثر في إسكات هذه النفوس المريضة، فعلت كلمة الله واضطر خصوم الإسلام في المدينة وما حولها لأنّ يلزموا جانب الصمت ويخضعوا لسلطان المسلمين. 

 

الحضارة الإسلامية لخير أمة أخرجت للناس ... رحمة للعالمين ... في دولة الخلافة على منهاج النبوة