دولة الخلافة توجد المجتع الإسلامي كما أوجده رسول الله في دولة الإسلام الأولى بإقامة  دولة الإسلام الأولى على إثر هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولد المجتمع الإسلامي الأول، والذي ساده الإسلام على اختلاف مكوناته البشرية، إذ أن هوية المجتمع هي الأفكار التي تسوده وتنظم علاقات أفراده، وتتوحد المشاعر علي الرضى بها.

فطر الله في الإنسان غريزة البقاء وكان من مظاهرها تجمع الإنسان مع الإنسان، لذلك كان اجتماع النّاس مع بعضهم طبيعياً، وكان المجتمع بينهم أمراً غريزياً، إلاّ أن مجرد اجتماع النّاس ببعضهم لا يجعل منهم مجتمعاً، وإنما يجعل منهم جماعة، ويبقون جماعة فقط إذا اقتصروا على مجرد الاجتماع، فإذا نشأت بينهم علاقات لجلب المصالح لهم، ودفع المفاسد عنهم، جعلت هذه العلاقات من هذه الجماعة مجتمعاً، غير أن هذه العلاقات لا تجعل منهم مجتمعاً واحداً إلاّ إذا توحدت نظرتهم إلى هذه العلاقات بتوحيد أفكارهم، وتوحد رضاهم عنها وسخطهم منها بتوحيد مشاعرهم، وتوحدت معالجاته لهذه العلاقات بتوحيد النظام الذي يعالجها، ولذلك كان لا بد من النظرة إلى الأفكار والمشاعر والأنظمة حين النظر للمجتمع ؛ لأنها هي التي تجعله مجتمعاً معيناً له لون معين. وعلى هذا الأساس ننظر إلى المجتمع في المدينة حين قدمها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لنعرف ماهيته. 

 كانت تسكن المدينة حينئذ ثلاث جماعات:

  • أولاها المسلمون من مهاجرين وأنصار، وكانوا الكثرة الغالبة فيها.
  • وثانيتها المشركون من سائر الأوس والخزرج الذين لم يسلموا، وكانوا قلة بين أهلها.
  • وثالثتها اليهود وهم أربعة أقسام : قسم منهم في داخل المدينة، وثلاثة أقسام خارجها. أما الذين في داخل المدينة فهم بنو قَيْنُقاع. وأما الذين خارجها فهم بنو النضير، ويهود خيبر ، وبنو قريظة.

وقد كان اليهود قبل الإسلام مجتمعاً منفصلاً عن المجتمع في المدينة فأفكارهم متباينة، ومشاعرهم متباينة ، والمعالجات التي يحلون بها مشاكلهم متباينة؛ ولذلك لا يعتبر اليهود جزءاً من المجتمع في المدينة، وإن كانوا داخلها وعلى مقربة منها.

وأما المشركون فقد كانوا قلة. وكانت الأجواء الإسلامية التي اكتسحت المدينة قد اجتاحتهم ،  ولذلك كان خضوعهم في علاقاتهم للأفكار الإسلامية وللمشاعر الإسلامية ولنظام الإسلام أمراً حتمياً، حتى ولو لم يعتنقوا الإسلام.

وأما المسلمون ( المهاجرون والأنصار ) فقد جمعتهم العقيدة الإسلامية وألف الإسلام بينهم ،  ولهذا كانت أفكارهم واحدة ومشاعرهم واحدة، فكان تنظيم علاقاتهم بالإسلام أمراً بديهياً،

المؤآخاة بين المسلمين

ولذلك بدأ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين يقيم العلاقات بينهم على أساس العقيدة الإسلامية، فدعاهم ليتآخوا في الله أخوين أخوين، أخوة يكون لها الأثر الملموس في معاملاتهم وأموالهم وسائر شؤونهم، فآخى بين المسلمين، فكان هو وعلي بن أبي طالب أخوين ،  وكان عمه حمزة ومولاه زيد أخوين، وكان أبو بكر وخارجة بن زيد أخوين، وآخى بين المهاجرين والأنصار، فكان عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك الخزرجي أخوين، وكان طلحة بن عبيد الله وأبو أيوب الأنصاري أخوين، وكان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين.

وكان لهذه الأخوة أثر في الناحية المادية فقد أظهر الأنصار من الكرم لإخوانهم المهاجرين ما يزيد هذه الأخوة قوة وتوكيداً ، فقد أعطوهم الأموال والأرزاق، وشاركوهم في حاجات الدنيا، وقد اتجه التجار للتجارة، والزراع للزراعة، وكل إلى عمله. أما التجار فقد أخذوا يشتغلون بالتجارة، فقد بدأ عبد الرحمن بن عوف يبيع الزبدة والجبن، وصنع كثير غير عبد الرحمن صنيعه، وأثروا من تجارتهم ؛ إذ كانوا على دراية في شؤون التجارة. أما الذين لم يشتغلوا بالتجارة ومن بينهم أبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب وغيرهم فقد عملت أسرهم بالزراعة في الأراضي التي منحهم إياها الأنصار. قال عليه الصلاة والسلام: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه». وصاروا جميعاً يعملون لكسب قوتهم. وكانت هنالك جماعة صغيرة لم يكن لديها مال ولم تجد عملاً تعمله، وليس لها مسكن تسكنه،  وكانوا في حال من العوز والمتربة، ولم يكن هؤلاء من المهاجرين ولا من الأنصار، وإنما كانوا عرباً وفدوا على المدينة وأسلموا، فعني بهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأفرد لهم صُفَّة المسجد (القسم المسقوف منه) يبيتون بها ويأوون إليها، ولذلك سموا أهل الصُّفّة، وجعل لهم رزقاً من مال المسلمين من المهاجرين والأنصار الذين آتاهم الله رزقاً حسناً.

وبذلك انتهى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من تركيز المسلمين جميعاً على حال مستقرة، ومن تركيز العلاقات القائمة بينهم على أساس متين. وبهذا أقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المجتمع في المدينة على أساس ثابت وقف في وجه الكفر، وصمد لدسائس اليهود والمنافقين، وظل وحدة واحدة، فاطمأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا المجتمع وإلى هذه الوحدة.

غير المسلمين في المجتمع افسلامي

أما المشركون فقد خضعوا للحكم الإسلامي ثمّ تلاشى وجودهم. ولذلك لم يكن لهم أثر في تكوين المجتمع .   وأما اليهود فإنهم مجتمع آخر قبل الإسلام. وبعد الإسلام ازداد التباين بين مجتمعهم وبين المجتمع الإسلامي، وبينهم وبين المسلمين، وكان لا بد من وضع العلاقات بينهم وبين المسلمين على أساس معين، ولذلك حدد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم موقف المسلمين منهم ،  وحدد لهم ما يجب أن يكون عليه وضعهم في علاقاتهم مع المسلمين.

فقد كتب صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار كتاباً ذكر فيه اليهود واشترط عليهم شروطاً، فكان الكتاب منهاجاً حددت فيه علاقات قبائل اليهود مع المسلمين بعد أن حددت علاقات المسلمين ببعضهم وبمن تبعهم. وقد افتتح الكتاب بقوله: « بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المؤمنين المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون النّاس» ثمّ ذكر ما يجب أن تكون عليه العلاقات بين المؤمنين. وذكر اليهود عَرَضاً أثناء الحديث عن علاقات المؤمنين فقال: «ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون النّاس، وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم وان سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلاّ على سواء وعدل بينهم» وليس المقصود من اليهود المذكورين هنا في هذا النص هم قبائل اليهود المجاورة ،  بل المراد كل من أراد أن يكون من رعية الدولة الإسلامية تابعاً لها يكون له النصر وتكون له المساواة في المعاملة مع المسلمين؛ إذ يكون حينئذ ذمياً.

وأما قبائل اليهود الذين شملهم الكتاب فقد ذكروا بأسماء قبائلهم في القسم الأخير من الكتاب، بعد أن انتهى الحديث عن علاقات المؤمنين ،  فقد ذكر يهود بني عوف ويهود بني النجار إلى آخر ما ذكر، وحدد وضعهم في علاقاتهم بالدولة الإسلامية فيما ذكره من شروط. وقد جاء في نصوص الكتاب ما يدل صراحة على أن العلاقة بين اليهود وبين المسلمين وضعت على أساس الاحتكام إلى الإسلام، وعلى أساس جعلها خاضعة لسلطان الإسلام، وعلى أساس تقيد اليهود بما تستلزمه مصلحة الدولة الإسلامية. فقد جاء في نصوص الكتاب عدة نقاط تدل على ذلك منها:

  1. وان بطانة يهود كأنفسهم وأنه لا يخرج منهم أحد إلاّ بإذن محمد صلى الله عليه وآله وسلم. 
  2. وان يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. 
  3. وانه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث واشتجار يخاف فساده فإن مردّه إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. 
  4. وانه لا تجار قريش ولا من نصرها. 

 وهكذا حدد كتاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وضع القبائل المجاورة للمدينة من اليهود فشرط عليهم ألا يخرجوا من المدينة إلا بإذن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أي بإذن الدولة، وانه يحرم عليهم انتهاك حرمة المدينة بحرب أو نصرة على حرب، وانه يحرم عليهم أن يجيروا قريشاً ولا من نصر قريشاً، وأن أي خلاف بينهم على ما ورد في الكتاب يحكم فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.وقد وافق على ما في هذا الكتاب ووقعه من اليهود من ذكروا فيه وهم يهود بني عوف، ويهود بني النجار، ويهود بني الحارث، ويهود بني ساعدة، ويهود بني جشم، ويهود بني الأوس، ويهود بني ثعلبة، ولم يشترك في توقيع هذه الصحيفة أو هذا الكتاب من اليهود بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع. إلا أنهم ما لبثوا بعد قليل أن وقعوا بينهم وبين النبي صحفاً مثل هذه الصحيفة، وخضعوا لنفس الشروط المذكورة في هذه الصحيفة. 

وبتوقيع هذه الصحف ركز الرسول صلى الله عليه وآله وسلم العلاقات في الدولة الإسلامية الناشئة على وضع ثابت الأساس، وركز العلاقات بين هذه الدولة وبين القبائل اليهودية المجاورة على أسس واضحة يكون الإسلام فيها الحكم ،  فاطمأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى بناء المجتمع الإسلامي وأمن إلى حد ما غدر جيرانه اليهود ومحاربتهم، وبدأ يعمل لإزالة الحواجز المادية من طريق الدعوة الإسلامية بالتهيئة للقتال.