كانت بيعة العقبة الأولى خيراً وبركة، فإن الذين اسلموا على قلة عددهم، كفاهم شخص واحد من أصحاب الرسول هو مصعب لأنّ يغير بهم المدينة، ويقلب الأفكار والمشاعر الموجودة في مجتمعهم. وهذا يستوجب الوقوف على دلالات الاختلاف في التفاعل بين الدعوة في مكة والمدينة!

دلالات الدعوة بين مكة المدنية:

  1. ومع أن الذين اسلموا في مكة كانوا كثيرين إلاّ أن جماهير النّاس كانوا منفصلين عنهم، إذ لم تؤمن الجماعات، ولم يتأثر المجتمع بالأفكار والمشاعر الإسلامية، بخلاف المدينة فقد دخلت في الإسلام فيها جماهير النّاس، وتأثر المجتمع فيها بالإسلام، وتأثرت أفكاره، وتأثرت مشاعره.
  2. وذلك يدل دلالة واضحة على أن إيمان الأفراد منفصلين عن المجتمع، منفصلين عن جماهير النّاس لا يحدث أثراً في المجتمع، ولا في الجماهير، مهما تكن قوة هؤلاء الأفراد.
  3. ويدل على أن العلاقات القائمة بين النّاس إذا تأثرت بتأثير الأفكار والمشاعر حدث التحول والانقلاب مهما يكن قليلاً عدد الحاملين للدعوة.
  4. ويدل على أن المجتمع حين يكون جامداً على الكفر كمجتمع مكة يكون أكثر صعوبة من المجتمع الذي لم تتحكم فيه الآراء الفاسدة كمجتمع المدينة، وان كانت موجودة فيه هذه الآراء، ولذلك تأثر المجتمع في المدينة بالإسلام أكثر من مكة، فقد كان النّاس في المدينة يشعرون بخطأ الأفكار التي يحملونها وكانوا يبحثون عن أفكار أخرى وعن نظام آخر لحياتهم، في حين أن مجتمع مكة كان مرتاحاً إلى ما هو عليه، حريصاً على بقائه لا سيما رؤوس الكفر أمثال أبي لهب وأبي جهل وأبي سفيان.

ولذلك ما لبث مصعب في المدينة مدّة قصيرة حتى وجد الإقبال على الدعوة، فأقام يدعو النّاس للإسلام ويثقفهم بأفكاره وأحكامه، فيلمس الاستجابة السريعة، ويشاهد إقبال النّاس على الإسلام وإقبالهم على تفهم أحكامه فيسر كثيراً، ويرى ازدياد عدد المسلمين، وازدياد الإسلام بالمدينة، فيغتبط لذلك ويزداد نشاطاً في التعليم وبث الدعوة، حتى إذا أتى موسم الحج عاد إلى مكة وقص على رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم خبر المسلمين وقوتهم، وأنباء الإسلام وازدياد انتشاره، وصور له المجتمع بالمدينة بأنه أصبح لا يتحدث إلاّ عن الرسول، ولا شيء في أجوائه إلاّ الإسلام، وأن قوة المسلمين ومنعتهم هناك لها من التأثير ما جعل الإسلام هو الذي له الغلبة على كل شيء، وأنه سيحضر هذا العام بعض المسلمين، وهم أعظم إيماناً بالله، واستعداداً لحمل رسالة الله، والدفاع عن دين الله.

 الفرق بين الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة:

فسُر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأخبار مصعب كثيراً وأخذ يفكر في الأمر طويلاً، ويقارن بين مجتمع مكة ومجتمع المدينة. فإن مكة قد قضى يدعو فيها إلى الله اثني عشر عاماً متتالية،لم يأل جهداً بالدعوة، ولم يترك فرصة إلاّ بذل فيها كل ما يستطيع من جهد، وتحمل جميع صنوف الأذى، ومع ذلك فالمجتمع متحجر لا تجد الدعوة إليه سبيلاً، نظراً لما في قلوب أهل مكة من قسوة، وما في نفوسهم من غلظة، وما في عقولهم من جمود على القديم، وبذلك كان مجتمع مكة قاسياً ضعيف القابلية للدعوة، لما تغلغل في نفوس أهله من وثنية الشرك التي كانت مكة المركز الرئيسي لها. وأما مجتمع المدينة، فقد كان مرور سنة على إسلام نفر من الخزرج، ثمّ بيعة اثني عشر رجلاُ، وجهود مصعب بن عمير مدّة سنة أخرى، كان ذلك كافياً لإيجاد الأجواء الإسلامية في المدينة ودخول النّاس في دين الله بهذه السرعة المدهشة، وإذا كانت مكة قد وقفت فيها رسالة الله عند حد الذين اسلموا، مع ما يلاقي فيها المسلمون من أذى قريش ومساءاتها، فإن المدينة قد بدأت فيها رسالة الله تنتشر بهذه السرعة، ولا يجد المسلمون فيها من أذى اليهود ولا أذى المشركين شيئاً، وذلك مما يُمَكِّنُ للإسلام في النفوس، ويفتح الطريق أمام المسلمين، ولهذا فقد تبين لرسول الله أن المدينة أصلح من مكة للدعوة إلى الإسلام، وأن مجتمع المدينة فيه قابلية لأنّ يكون مُنْبَثَقَ نور الإسلام أكثر من مكة. ولهذا فكر في أن يهاجر إليه، وأن يهاجر أصحابه إلى إخوانهم المسلمين، ليجدوا عندهم أمناً، وليسلموا من أذى قريش، حتى يتفرغوا للدعوة وينتقلوا بها إلى مرحلتها العملية، ألا وهي تطبيق الإسلام، وحمل رسالته، بقوة الدولة وسلطانها. وكان هذا هو السبب للهجرة إليها لا غيره.

ولا بد من لفت النظر إلى أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يفكر بالهجرة من مكة لمجرد أن لاقى صعوبات أمام الدعوة، دون أن يصبر، وأن يحاول التغلب على هذه الصعوبات، فإنّه عليه السلام قد صبر عشر سنين في مكة، وهو لا يتحول فكره عنها، وكان يلاقي الأهوال في سبيل الدعوة هو وأتباعه، ولم تضعف مساءات قريش من نفسه شيئاً، وما أوهنت مقاومتهم له عزماً، بل زاده الإيمان بالدعوة التي جاء بها من ربه سمواً، وزاده اليقين بنصر الله صلابة وثباتاً، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى بعد هذه التجارب ما عليه هذا المجتمع القاسي في مكة من ضحالة أفكار، وما فيه من غلظة أكباد، وما هو عليه من ضلالة، مما يضعف الأمل فيه، ويجعل استمرار التجربة في دعوته جهداً ضائعاً، ولذلك كان لا بد من التحول عن هذا المجتمع إلى غيره. ففكر في الهجرة من مكة، وكان هذا هو الذي حمله على التفكير بالهجرة إلى المدينة، وليس هو ما ناله وما نال أصحابه من أذى. نعم إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة فراراً من الأذى؛ إذ يجوز للمؤمنين أن يهاجروا عن مواطن الفتنة فراراً بدينهم، لأنّه وإن كان الأذى يذكي الإيمان ،  والاضطهاد يشعل الإخلاص، والمقاومة ترهف العزائم ،  والإيمان يحمل صاحبه على الاستهانة بكل شيء، وعلى التضحية في سبيله بالمال والجاه والراحة والحياة، نعم انه وإن كان الإيمان بالله يجعل المؤمن يقدم نفسه عن طيب خاطر في سبيل الله، ولكن استمرار الأذى، ومداومة التضحية، تجعل المؤمن مشغولاً بالصبر على الأذى، وببذل التضحيات، عن دقة التأمل التي تزيد أفق المؤمن سعة وإدراكه للحق قوة وعمقاً، ولذلك كان لا بد من هجرة المؤمنين عن مواطن الفتنة. غير أن هذا ينطبق على هجرة المسلمين إلى الحبشة. أما هجرتهم إلى المدينة فإنها كانت ليتمكنوا من الانتقال برسالتهم إلى وضع يجعلها حية في مجتمعهم الجديد، مندفعة في الكرة الأرضية لإعلاء كلمة الله. ومن هنا فكر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أن يأمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة، بعد أن دخلها الإسلام وانتشر فيها هذا الانتشار.

هل المدينة دار الهجرة؟

وقبل أن يأمرهم بالهجرة إلى يثرب، وقبل أن يقرر هو الهجرة إليها، لا بد من أن يرى الحجاج من المدينة، ويرى المسلمين الذين قدموا للحج، ويرى مبلغ استعدادهم لحماية الدعوة، ومبلغ استعدادهم للتضحية في سبيل الإسلام، ويرى أكانوا يقدمون على بيعته بيعة حربية، بيعة قتال تكون الحجر الأساسي لإقامة الدولة الإسلامية وانتظر قدوم الحجاج، وكان ذلك في السنة الثانية عشرة للبعثة الموافق سنة 622 ميلادية وكان الحجاج كثيرين بالفعل وكان بينهم خمسة وسبعون مسلماً: ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان هما نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي إحدى نساء بني سلمة وهي أم منيع.

فاتصل بهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سراً، وتحدث إليهم في بيعة ثانية لا تقف عند حد الدعوة فحسب والصبر على الأذى، بل تتجاوز ذلك وتمتد إلى ما يكون به قوة يدفع بها المسلمون عن أنفسهم، بل تمتد إلى ما هو ابعد من ذلك أيضاً، إلى إيجاد النواة التي تكون حجر الزاوية، والدعامة الأولى في إقامة دولة الإسلام، التي تطبقه في المجتمع، وتحمله رسالة عالمية إلى النّاس كافة، وتحمل معه القوة التي تحميه، وتزيل من طريقه كل حاجز مادي يقف في سبيل نشره وتطبيقه. تحدث إليهم في ذلك، وعرف حسن استعدادهم فواعدهم أن يلتقوا معه عند العقبة جوف الليل، في أواسط أيام التشريق. وقال لهم: لا توقظوا نائماً، ولا تنتظروا غائباً.

بيعة العقبة الثانية

وفي يوم موعدهم المعين، وبعد مضي الثلث الأول من الليل، خرجوا من رحالهم يتسللون مستخفين، مخافة أن ينكشف أمرهم، وذهبوا للعقبة وتسلقوا الجبل جميعاً، وتسلقت معهم المرأتان، وأقاموا ينتظرون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فأقبل ومعه عمه العباس، ولم يكن قد أسلم حينئذ، وإنّما جاء ليستوثق لابن أخيه. وكان أول من تكلم

  • فقال العباس:يا معشر الخزرج إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلاّ الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك.  وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه
  • فلما سمعوا كلام العباس قالوا له: سمعنا ما قلت.
  • ثمّ قالوا: تكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
  • فأجاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن تلا القرآن، ورغب في الإسلام: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم»،
  • فمد البراء لمبايعته على ذلك وقال: بايِعْنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحَلْقَة، ورثناها كابراً عن كابر.
  • وقبل أن يتم البراء كلامه، اعترضه أبو الهيثم بن التيهان قائلاً: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال - أي اليهود - حبالاً ( عهوداً ) وإنّا قاطعوها، فهل عسيت إنْ نحن فعلنا ذلك، ثمّ أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟
  • فتبسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقال:«بل الدم الدم، والهدم الهدم أنا منكم، وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم».
  • وهمّ القوم بالبيعة، فاعترضهم العباس بن عبادة قائلاً: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من النّاس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً، أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، على نهكة الأموال وقتل الأشراف، فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة.
  • فأجاب القوم: إنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف،
  • ثمّ قالوا: فما لنا يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟
  • فرد عليهم الرسول مطمئن النفس قائلاً: «الجنة». 
  • ومدوا إليه أيديهم فبسط يده فبايعوه قائلين: «بايعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة في عسرنا، ويسرنا، ومنشطنا، ومكرهنا وأَثَرَةٍ علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم»،
  • فلما فرغوا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً، ليكونوا على قومهم بما فيهم كفلاء»،
  • فاختار القوم تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، فقال النبي لهؤلاء النقباء: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي»
  • قالوا:  نعم.

 ثمّ رجعوا إلى مضاجعهم، ثمّ احتملوا رحالهم وعادوا إلى المدينة.

 بدء الهجرة إلى المدينة

وبعد ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المسلمون أن يهاجروا إلى المدينة، وان يخرجوا متفرقين، وبدأ المسلمون يهاجرون فرادى، أو نفراً قليلاً، وكانت قريش قد علمت بأمر البيعة، لذلك حاولت أن ترد من تستطيع رده إلى مكة. وكانت تحول بين المسلمين والهجرة، حتى كانت تحول بين الزوج والزوجة. إلاّ أن ذلك لم يؤثر في الهجرة، فتتابعت هجرة المسلمين إلى المدينة والرسول صلى الله عليه وآله وسلم مقيم في مكة، ولا يعرف أحد هل اعتزم أن يهاجر إلى المدينة. أم قرر الإقامة في مكة؟

ولكن الذي كان يظهر أنه يريد الهجرة إلى المدينة. فقد استأذنه أبو بكر أن يهاجر إلى المدينة فقال: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً». فعرف أبو بكر أنه يريد الهجرة. وكانت قريش تحسب لهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ألف حساب بعد أن كثر المسلمون هناك كثرة جعلتهم أصحاب اليد العليا في المدينة، وجعلتهم مع الذين يهاجرون من مكة قوة كبيرة، فإذا لحق بهم النبي وهم في هذه القوة، كان في ذلك الويل والدمار لهم. ولهذا فكروا في منع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الهجرة إلى المدينة. وخافوا في نفس الوقت من بقائه في مكة أن يتعرضوا لأذى المسلمين في المدينة حين تشتد شوكتهم، بعد أن صاروا بهذه القوة، فيأتون إلى مكة ليدافعوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي آمنوا به. لذلك فكروا في قتله حتى لا يلحق بالمسلمين في المدينة وحتى لا يكون هنالك ما يسبب اشتباكهم مع أهل المدينة من أجل الإسلام ومن أجل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد جاء في كتب السيرة أنه قد ورد في حديث عائشة وأبي أمامة بن سهم: «لما صدر السبعون من عنده صلى الله عليه وآله وسلم طابت نفسه وقد جعل الله له منعة أهل حرب ونجدة». وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلنون من الخروج، فضيقوا على أصحابه وأتعبوهم ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى، فشكوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فقال: «قد أُريتُ دارَ هجرتكم سَبْخَة». ثمّ مكث أياماً، ثمّ خرج مسروراً فقال: «قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد منكم أن يخرج فليخرج إليها».

فجعلوا يتجهزون ويترافقون ويتواصون ويخرجون ويخفون ذلك، وقد خرجوا أرسالاً أي أقواماً وفرقاً متقطعة، وأقام صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ينتظر أن يؤذن له في الخروج، وكان الصدّيق كثيراً ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الهجرة إلى المدينة بعد أن صار المسلمون يهاجرون إليها فيقول: «لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحباً»، فيطمع أبو بكر أن يكون هو.

ولما رأت قريش هجرة الصحابة، وعرفوا أنه أجمع لحربهم، اجتمعوا في دار الندوة يتشاورون فيما يصنعون في أمره عليه الصلاة والسلام، فأجمع رأيهم على قتله، وتفرقوا على ذلك. ثمّ أتى جبريلُ النبيَ فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت في بيته تلك الليلة وأذن الله عند ذلك له بالخروج. 

وعلى ذلك فإن وجود القوة الإسلامية في المدينة واستعداد المدينة لتلقي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإقامة الدولة الإسلامية فيها هو الذي حمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على الهجرة، وهذا هو السبب المباشر للهجرة.

ولهذا يخطيء كل من يظن بأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد هاجر من مكة خوفاً من قريش أن تقتله، وفراراً منها. فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يحسب للأذى أي حساب، ولم يكن للموت في نظره أي اعتبار في سبيل الدعوة إلى الإسلام ، ولم تكن تشغله نفسه ولا حياته، وما كانت هجرته للمدينة إلاّ للدعوة الإسلامية، ولإقامة الدولة الإسلامية. وإنّما ائتمرت قريش بقتله مخافة هجرته إلى المدينة، واعتزازه بها، ولكنه عليه السلام انتصر عليها، وهاجر إلى المدينة رغم أنفها، ولم تستطع منعه رغم ائتمارها به. فكانت الهجرة الحد الفاصل في الإسلام بين دور الدعوة له، وبين إيجاد مجتمعاً ودولة تحكم به،  وتطبقه، وتدعو له بالحجة والبرهان، وبالقوة التي تحمي هذه الدعوة من قوى الشر والطغيان