طباعة
المجموعة: كيف أقيمت دولة الإسلام ؟| الطريقة الفريضة

سار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حمل الدعوة في مكة في دورين متتاليين:

  1. دور التعليم والتثقيف والإعداد الفكري والروحي، ,فهذا هو دور فهم الأفكار وتجسيدها في أشخاص وتكتلهم حولها،
  2. ودور نشر الدعوة والكفاح،  ، وهذا هو دور نقل هذه الأفكار إلى قوة دافعة في المجتمع تدفعه لأنّ يطبقها في معترك الحياة.

 لأنّ الأفكار تبقى مجرد معلومات ما دامت لم تطبق، ولا فرق بين أن تكون هذه المعلومات في الكتب أو في الأدمغة فهي مخزونة في مكان، ولذلك لا قيمة للأفكار إذا لم تنتقل إلى تطبيق لها في الحياة. والأفكار لكي تطبق لا بدّ أن تمر بدور تحويلها من فكر إلى قوة دافعة في النّاس، فتؤمن بها الجماهير، وتفهمها، وتحملها، وتكافح في سبيل تطبيقها، وحينئذ يصبح تطبيقها أمراً حتمياً ونتيجة طبيعية.

وهكذا سار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة في مكة في هذين الدورين:

أما الدور الأول فهو دور دعوة النّاس للإسلام، وتثقيفهم بأفكاره وتلقينهم أحكامه، وتكتيل من يستطيع تكتيلهم على أساس العقيدة الإسلامية، وهذا الدور هو دور التكتل السري في الدعوة. وذلك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يفتر عن الدعوة ويدأب على تثقيف من يدخلون في الإسلام بالأفكار، ويجمعهم في دار الأرقم، ويرسل من يثقفهم كتلة في حلقات، فيجتمع المسلمون في بيوتهم سراً وفي شعاب الجبال سراً، وفي دار الأرقم سراً ويتكتلون، ويزداد كل يوم إيمانهم وتزداد كل يوم صلاتهم ببعضهم، ويزداد كل يوم إدراكهم لحقيقة المهمة التي يحملونها، فيستعدون للتضحية في سبيلها حتى غرست الدعوة في نفوسهم، وسرى الإسلام فيهم سريان الدم في أجسامهم، فأصبحوا إسلاماً يمشي في الطريق. وبذلك لم تستطع الدعوة أن تبقى حبيسة في نفوسهم رغم استخفائهم ورغم سِرِّية تكتلهم والحرص على إخفاء تجمعهم، فأخذوا يتحدثون إلى من يثقون بهم، وإلى من يأنسون منهم استعداداً لقبول الدعوة، وبهذا أحس النّاس بدعوتهم، وأحسوا بوجودهم، فاجتازت بذلك الدعوة نقطة الابتداء، وصار لا بد لها أن تنطلق، ووجدت المحاولات لانطلاقها ومخاطبة النّاس جميعاً بها، وبذلك انتهى الدور الأول وهو دور التكتل السري والتثقيف الذي يبني هذا التكتل، وصار لا بد من الانتقال إلى الدور الثاني وهو دور التفاعل.

فالدور الثاني، هو دور التفاعل والكفاح بإفهام النّاس الإسلام، فيتجاوبون معه ويقبلون عليه فيختلط بنفوسهم، أو يردونه ويحملون عليه فيصطدمون بأفكاره، ويحصل من هذا الاصطدام أن يهزم الكفر والفساد ويستقر الإيمان والصلاح، وينتصر الفكر الصحيح؛ لأنّ العقول مهما تكن مكابرة لا يمكن أن تغلق أمام الفكر الصحيح، ولا تستطيع أن ترفضه، وإن كانت تهرب منه حتى لا يؤثر فيها. وهكذا بدأ دور التفاعل وبدأ به الكفاح بين فكر وفكر، بين مسلمين وكافرين، بدأ ذلك من الكتلة الحزبية حين خرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أصحابه في ترتيب لم تعهده العرب من قبل، وفي كتلة واحدة، فطاف بالكعبة وأعلن أمره. ومنذ ذلك الحين صار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ينشر الدعوة بين النّاس كافة جهاراً نهاراً سافراً متحدياً.

وصارت الآيات تنزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى التوحيد، وفي إنكار الوثنية والشرك، والحملة عليهما، والنعي على تقليد الآباء والأجداد من غير نظر، وصارت تنزل في الحملة على المعاملات الفاسدة، فتهاجم الربا، وتهاجم التجارة الفاسدة، والغش في الكيل والميزان.

التثقيف والتفاعل من أدور حمل الدعوة / كيف أقيمت الدولة الإسلامية - دولة الخلافة - على منهاج النبوةوصار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث إلى النّاس في الإسلام جماعات، فيجمع قومه على طعام في بيته ويحدثهم جماعة، ويطلب إليهم أن يسلموا وأن يؤازره فيرفضوا شر رفض، ثمّ يجمع أهل مكة على الصفا ويحدثهم، فيثور زعماء قريش ويرده أبو لهب شرّ ردّ، وتزداد الخصومة بين قريش والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما تزداد بين غير قريش من العرب وبينه صلى الله عليه وآله وسلم وهكذا تَجْمَعُ الدعوة إلى التثقيف المركز بالحلقات في البيوت وبين الشعاب وفي دار الأرقم تثقيفاً جماعياً، وتنتقل من دعوة من يؤنس فيه الاستعداد إلى دعوة النّاس جميعاً، فيكون لهذه الدعوة الجماعية والتثقيف الجماعي أثر في قريش ؛ إذ ازداد حقدها وأحست بالخطر يقترب منها، وبدأت تتخذ الخطوات الجدية للمقاومة، بعد أن كانت لا تأبه لمحمد ولا لدعوته، فازداد الأذى والاضطهاد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أصحابه. ولكن هذه الدعوة الجماعية كان لها أثر في الدعوة نفسها، فقد أسمعت النّاس جميعاً كلمة الإسلام، وانتشرت الدعوة إلى دين الله بين أهل مكة جميعاً، فلم يكن يوم إلاّ أسلم فيه بعضهم لله وجهه، فآمن به كل بائس وكل ضعيف وكل محروم، وجميع من لا تلهيهم التجارة ولا يلهيهم البيع عن التأمل فيما يدعوهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمن به من تجار مكة وأشرافها وزعمائها من عرفت نفوسهم الطهر والنزاهة والصدق وارتفعوا عن اللجاج والمكابرة، هؤلاء أسلموا وجوههم لله بمجرد أن أدركوا صحة الدعوة وصدق الداعي.

 وانتشر الإسلام بمكة ودخل النّاس في الإسلام رجالاً ونساء. فكان للدعوة الجماعية أثر نَقَلَها إلى أفق أوسع، وإن كان نَقَلَ حَمَلَتها إلى المشقة والعذاب وتحمل صنوف الأذى. وكان يزيد النار اشتعالاً في نفوس زعماء قريش مهاجمةُ الرسول للظلم والقسوة والاستعباد الذي كان يسود مكة، وكشفه لأحوال الكفّار ولأعمالهم.  وبدأت بين الرسول ومعه أصحابه وبين كفار قريش مرحلة من أشق المراحل، ودور من أعنف الأدوار. ولئن كان الانتقال من دور الثقافة إلى دور التفاعل هو من أدق الأدوار لأنّه يحتاج إلى حكمة وصبر ودقة في التصرف فإن دور التفاعل هو من أشق الأدوار لأنّه يحتاج إلى صراحة وتحد دون أن يحسب للنتائج والأوضاع أي حساب، فتحصل فيه فتنة الكفّار للمسلمين عن دينهم، وفيه يظهر الإيمان وتظهر قوة الاحتمال، ويظهر ما في النفس من صدق اللقاء، وهكذا سار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الدور وهو والصحابة يتحملون ما تنوء به الجبال الشامخات من ظلم وإرهاق وعسف وعنت، فكان منهم من هاجر إلى الحبشة فراراً بدينه، ومنهم من مات تحت التعذيب ومنهم من احتمل أقسى صنوف الأذى، واستمروا على ذلك مدّة طويلة كانت كافية لأنّ يتأثر مجتمع مكة بنور الإسلام وتبدد فيه الظلمات.

style="float: left;" ولئن مكث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث سنوات في دار الأرقم وانتهى من الدور الأول دور التكتل السري والتثقيف خلال هذه السنوات الثلاث، فقد مضى على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثماني سنوات أخرى وهو يكافح (وتظهر المعجزات للناس) ومع ذلك فلم تخفَّ وطأة قريش عن تعذيب المسلمين ولم تخفَّ حماستهم في محاربة الإسلام. نعم كان من جراء احتكاك المسلمين بقريش أن سمعت الجزيرة كلها بالإسلام، وسارت أجواء الدعوة في جميع أنحاء الجزيرة، نقلها إليهم الحجاج وتحدثوا بها، لكن هؤلاء العرب كانوا يقفون موقف المتفرج، ولم يتقدموا خطوة نحو الإيمان، بل كانوا يسعون لعدم إغضاب قريش،ويبتعدون عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى لا يثير ذلك غضب قريش . فاشتد ذلك على الرسول. وعلى أصحابه وظهر أن قسوة المجتمع في مكة لا تدل على إمكانية تطبيق الإسلام، وازدياد الأذى على المسلمين لا يمكنهم من التفرغ للدعوة بل يحول بينهم وبينها، وإعراض النّاس عن الدعوة يزيدهم ألماً وحزناً.