طباعة
المجموعة: كيف أقيمت دولة الإسلام ؟| الطريقة الفريضة

كان اصطدام قريش بالدعوة الإسلامية أمراً طبيعياً؛  لأنه صلى الله عليه وسلم حمل الدعوة واظهر الكتلة التي تحمل معه الدعوة سافرة متحدية، وفوق ذلك فقد كانت هذه الدعوة بذاتها تتضمن كفاح قريش والمجتمع في مكة لأنها كانت تدعو لتوحيد الله وعبادته وحده، وإلى ترك عبادة الأصنام والإقلاع عن النظام الفاسد الذي يعيشون عليه، فاصطدمت بقريش اصطداماً كلياً، وهل يمكن أن لا يصطدم الرسول صلى الله عليه وسلم بقريش وهو يسفه أحلامهم ويحقر آلهتهم ويندد بحياتهم الرخيصة، وينعي عليهم وسائل عيشهم الظالمة.

فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقود تكتل الصحابة ويواجه مقاومة قريش للدعوة صادعا بما ينزل الله عزل وجل عليه من القرآن،  ليتجاوز مرحلة انطلاق الدعوة إلى مرحلة تفاعلها في المجتمع، فيهاجم قريش ويقول لهم بصراحة: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ثمّ يهاجم الربا الذي يعيشون عليه مهاجمة عنيفة من أصوله قال تعالى في سورة الروم: وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ويتوعد الذين يطففون الكيل والميزان قال تعالى: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ @ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ @ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ وبهذا أخذوا يقفون في وجهه، ويؤذونه هو وأصحابه بالتعذيب تارة، وبالمقاطعة أخرى، وبالدعاوة ضده وضد دينه. غير أنه ظل يهاجمهم، واستمر على كفاح الآراء الخاطئة، وهدم العقائد الفاسدة، والمجاهدة في سبيل نشر الدعوة. وكان يدعو للإسلام بكل صراحة، لا يكني، ولا يلوح، ولا يلين، ولا يستكين، ولا يحابي، ولا يداهن، رغم ما لاقاه من قريش من صنوف الأذى. ورغم ما يصيبه من مشقات. ومع أنه فرد أعزل لا معين له ولا نصير، ولا عدة معه ولا سلاح، فإنه جاء سافراً متحدياً، يدعو لدين الله بقوة وإيمان، لا يتطرق إليه أي ضعف عن احتمال تكاليف الدعوة، والقيام بالأعباء الجسام من أجلها، فكان لذلك كله الأثر في التغلب على الصعوبات التي كانت تضعها قريش في وجهه لتحول بينه وبين النّاس. وقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصل إلى النّاس ويبلغهم، فاقبلوا على دين الله، وأخذت قوة الحق تعلو على الباطل، وأخذ نور الإسلام يزداد كل يوم انتشاراً بين العرب، فأسلم الكثيرون من عباد الأصنام، ومن النصارى، بل أخذ زعماء قريش يسمعون للقرآن وتهفو قلوبهم له. 

قدم الطفيل بن عمرو الدوسي مكة وكان رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً فهبت إليه قريش تحذره محمداً وأن قوله كالسحر يفرق بين المرء وأهله، وأنهم يخشون عليه وعلى قومه مثل ما أصابهم بمكة، وأن الخير في ألا يكلمه ولا يستمع إليه.  وذهب الطفيل يوماً إلى الكعبة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك فسمع بعض قوله فإذا هو كلام حسن فقال في نفسه: (واُثكُلَ أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحَسَن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته) واتبع الرسولَ صلى الله عليه وسلم إلى بيته وأظهره على أمره وما دار بنفسه، فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه الإسلام، وتلا عليه القرآن، فأسلم وشهد وشهادة الحق، ورجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام. 

وقدم على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلاً من النصارى حين بلغهم خبره، فجلسوا إليه وسألوه واستمعوا له، فاستجابوا وآمنوا به وصدقوه، مما غاظ قريشاً حتى سبّوهم وقالوا لهم: (خيبكم الله من رَكْبٍ بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال) ولم تثن مقالة قريش هذا الوفد عن متابعة النبي، ولم ترده عن الإسلام، بل زادتهم بالله إيماناً على إيمانهم.

وبذلك ازداد أمر النبي ظهوراً وازداد شوق النّاس لسماع القرآن. حتى أن أشد قريش خصومة بدأوا يسائلون أنفسهم: أحقاً أنه يدعو إلى الدين القيم، وأن ما يعدهم وينذرهم هو الصحيح؟ وحملهم هذا التساؤل على التسلل لسماع القرآن. خرج أبو سفيان بن حرب، وأبو جهل عمرو بن هشام، والأخنس بن شريق، ليلة ليستمعوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فأخذ كل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل منهم لا يعلم بمكان صاحبه، وكان محمد صلى الله عليه وسلم يقوم الليل إلاّ قليلاً يرتل القرآن ترتيلاً وهم يسمعون آيات الله فتأسر قلوبهم ونفوسهم، ويظلون ينصتون حتى الفجر فتفرقوا عائدين إلى منازلهم، فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأضعف ذلك من أمركم ولنصر محمداً عليكم، فلما كانت الليلة الثانية شعر كل واحد منهم في مثل الموعد الذي ذهب فيه أمس كأنّ رجليه تحملانه من غير أن يستطيع امتناعاً ليقضي ليله حيث قضاه أمس، وليستمع إلى محمد صلى الله عليه وسلم يتلو كتاب ربه، وتلاقوا عند عودتهم مطلع الفجر وتلاموا من جديد، فلم يحل تلاومهم دون الذهاب في الليلة الثالثة، فلما أدركوا ما بهم لدعوة محمد صلى الله عليه وسلم من ضعف تعاهدوا ألا يعودوا لمثل فعلتهم، فأقلعوا عن الذهاب لسماع محمد صلى الله عليه وسلم ولكن ما سمعوه في الليالي الثلاث ترك في نفوسهم أثراً جعلهم يتساءلون فيما بينهم عن الرأي فيما سمعوا، وكلهم تضطرب نفسه، ويخاف أن يضعف وهو سيد قومه فيضعف قومه ويتابعوا محمداً صلى الله عليه وسلم معه. 

وهكذا سرت الدعوة في كل مكان رغم ما تضعه قريش في وجهها من عقبات، فساء ذلك قريشاً واشتد خوفها من انتشار الدعوة بين قبائل العرب بعد أن انتشرت بمكة، فزادت من أذى أصحابه، وأخذت تزيد في إيذائه، وكثرت مساءاتهم نحوه حتى ضاق بهم ذرعاً. فخرج إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة ويرجو إسلامهم، لكنهم ردوه بشر جواب، وأغروا به غلمانهم وسفاءهم يسبونه ويضربونه بالحجارة حتى أدميت قدماه، ففر منهم ورجع حتى جلس إلى بستان عنب لعتبة وشيبة ابني ربيعة يفكر في أمره وأمر الدعوة، فهو لا يستطيع أن يدخل مكة إلاّ في حماية أحد زعماء مكة المشركين، وهو لا يستطيع أن يذهب إلى الطائف بعد ما لاقى من الأذى، ولا يبقى مكانه لأن البستان لرجلين مشركين، واشتد الكرب عليه صلى الله عليه وآله وسلم فرفع رأسه إلى السماء يشكو إلى الله في اشد حالة من الألم، وأعظم حال من الثقة بالله وطلب رضاه، وأخذ يدعو بهذا الدعاء «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على النّاس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحلّ علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلاّ بك».

ثمّ عاد إلى مكة في حماية المطعم بن عدي، وعرفت قريش ماذا حصل لمحمد صلى الله عليه وسلم في الطائف فازدادت أذى له وشددت النكير عليه، وأخذت تمنع النّاس من الاستماع إليه، فانصرف عنه أهل مكة من المشركين وأعرضوا عن الاستماع إليه، فلم يصرفه ذلك عن الدعوة لدين الله، وجعل يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه. غير أن عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبا لهب لم يكن يدعه بل كان يتبعه أينما ذهب ويحرض النّاس ألا يستمعوا له.

فأثّر ذلك فيهم وانصرفوا عن سماعه، فصار الرسول صلى الله عليه وسلم يغشى القبائل في منازلهم، ويعرض نفسه عليهم طلبا للنصرة والمنعة ويرجو إسلامهم، فأتى كندة في منازلهم، وأتى كلباً في منازلهم، وأتى بني حنيفة وبني عامر بن صعصعة، فلم يسمع له منهم أحد وردوه جميعاً رداً غير جميل، بل رده بنو حنيفة رداً قبيحاً. أما بنو عامر فطمعوا إذا هو انتصر بهم أن يكون لهم الأمر من بعده، فلما قال لهم: إن الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء لووا عنه وجوههم وردوه كما رده غيرهم.

وهكذا أعرضت مكة عن الإسلام وأعرض أهل الطائف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وردت القبائل دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم. ورأت القبائل التي تجيء حاجّة إلى مكة ما صار إليه محمد صلى الله عليه وسلم من عزلة، وما أحاطته قريش من عداوة، تجعل كل نصير له عدواً لها وعوناً عليها، فازدادت إعراضاً عنه، وزاد ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عزلة عن النّاس، وصارت الدعوة صعبة في مكة وما حولها وظهر المجتمع المكي في صلابة الكفر والعناد، مما يجعل الأمل ضعيفاً فيه