طباعة
المجموعة: كيف أقيمت دولة الإسلام ؟| الطريقة الفريضة

حين بُعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام تحدث النّاس عنه وعن دعوته، وكانت قريش أقلهم حديثاً؛ لأنّهم لم يعنوا به أول أمره وظنوا أن حديثه لن يزيد على حديث الرهبان والحكماء، وأن النّاس عائدون إلى دين آبائهم وأجدادهم، ولذلك لم ينفروا منه ولم ينكروا عليه، وكان إذا مرّ عليهم في مجالسهم يقولون هذا ابن عبد المطلب يكلَّم من السماء، واستمر على ذلك.

إلاّ أنهم بعد أن مضت مدّة قصيرة على دعوته وبدأوا يحسون بخطورة هذه الدعوة اجمعوا على خلافه وعلى عداوته ومحاربته، وقد رأوا باديَ الرأي أن يحاربوه بالحط من شأنه وبتكذيبه فيما يزعم من نبوته، ثمّ تقدموا إليه يسألونه عن معجزاته التي يثبت بها رسالته، ويقولون ما بال محمد لا يحيل الصفا والمروة ذهباً، ولا ينزل عليه الكتاب الذي يتحدث عنه مخطوطاً من السماء، ولم لا يبدو لهم جبريل الذي يطول حديث محمد عنه، ولم لا يحيي الموتى، ولا يُسيّر الجبال حتى لا تظل مكة حبيسة بينها، ولم لا يفجر ينبوعاً أعذب من ماء زمزم وهو أعلم بحاجة أهل بلده إلى الماء، ولم لا يوحي إليه ربه أثمان السلع حتى يضاربوا على المستقبل. وهكذا صاروا يهاجمون الرسول ودعوته بأسلوب تهكمي لاذع، وطال بهم اللجاج، ولكن ذلك لم يثنه صلى الله عليه وآله وسلم عن دعوته بل استمر يدعو النّاس إلى دين الله ويذكر الأصنام ويعيبها ويطعن فيها ويسفه عقول عبدتها وحلوم مقدسيها، فعظم الأمر عليهم فاستعملوا جميع الوسائل لإرجاعه عن دعوته فلم يفلحوا، وكان من أهم الوسائل التي اتخذوها لمقاومة هذه الدعوة وسائل ثلاث:حسبنا الله ونعم الوكيل... دولة خلافة على منهاج النبوة... نصر من الله وفتح قريب

  1. التعذيب.
  2. الدعاوة الداخلية والخارجية.
  3. المقاطعة.

أما التعذيب فقد كان يقع على النبي صلوات الله وسلامه عليه رغم اعتصامه بقومه، وعلى أتباعه المسلمين جميعاً، وقد تفننوا في إيقاع الأذى واستعملوا جميع صنوفه، وقد عُذب آل ياسر جميعهم تعذيباً شديداً ليتركوا دينهم فما زادهم ذلك إلاّ ثباتاً وإيماناً، وقد مرّ بهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهم يعذبون فقال لهم: « صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة إني لا أملك لكم من الله شيئاً» فما كان من سمية زوجة ياسر إلاّ أن قالت حين قال لهم إن موعدكم الجنة: "إني أراها ظاهرة يا رسول الله" وهكذا استمرت قريش في تعذيب النبي وأصحابه.

ولما رأت قريش أن ذلك لم يفدها لجأت إلى سلاح آخر هو سلاح الدعاوة ضد الإسلام وضد المسلمين في كل مكان، في مكة في الداخل، وفي الحبشة في الخارج، واستعملت الدعاوة بكل نواحيها وبكل ما تنطوي عليه من مجادلة وحجج ومهاترة وترويج إشاعات، واستعملت الدعاوة ضد العقيدة الإسلامية نفسها، وضد صاحب العقيدة، واتهامه فيها واتهامها لذاتها، واخذوا يكذبون على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، واخذوا يهيئون كل كلام يريدون الدعاوة به ضد محمد في مكة وفي خارج مكة، وخاصة الدعاوة في موسم الحج، وقد بلغ من اهتمام قريش بالدعاوة ضد الرسول أن اجتمع نفر من قريش إلى الوليد بن المغيرة يتشاورون ماذا عسى أن يقولوا في شأن محمد للعرب القادمين إلى مكة في موسم الحج، فاقترح بعضهم أن يقولوا عنه أنه كاهن، فرد الوليد هذا الرأي بأن ما يقوله محمد ليس بزمزمة الكاهن ولا بهمهمته ولا بسجعه. واقترح بعضهم الآخر أن يزعموا أن محمداً مجنون، فرد الوليد هذا الرأي أيضاً لأنّه لا تظهر على محمد أية ظاهرة تدل على جنونه، ورأى آخرون أن يتهموا محمداً بالسحر فرد الوليد ذلك بأن محمداً لا ينفث في العقد ولا يأتي من عمل السحرة شيئاً.

وبعد جدال ومناقشات اتفقوا على اتهام محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسحر البيان وانفضوا، ثمّ انطلقوا بين وفود الحج من العرب يحذرونهم الاستماع إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنّه ساحر البيان وما يقوله سحر يفرق فيه بين المرء وأخيه وأمه وأبيه، وزوجه وعشيرته، ويخشى على من يستمع إليه أن يسحره فيفرق بينه وبين أهله. ولكن هذه الدعاوة لم تنفع، ولم تحل بين النّاس وبين دعوة الإسلام. فذهبوا إلى النضر بن الحارث وحملوه على الدعاوة ضد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ النضر كلّما جلس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مجلس يدعو إلى دين الله، خَلَفَهُ في مجلسه، وصار يقص حديث فارس ودينها، ويقول: بماذا يكون محمد أحسن حديثاً مني. أليس يتلو من أساطير الأولين ما أتلو؟ وكانت قريش تأخذ هذه الأحاديث وتذيعها بين النّاس، كما كانت تذيع أن ما يقوله محمد إنّما يعلمه إياه غلام نصراني اسمه جبر، وأنه ليس من عند الله، وروجت لهذه الشائعة كثيراً حتى ردّ الله عليهم فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} وهكذا استمرت دعاوة قريش داخل الجزيرة. ولم يكتف بذلك بل أنّها حين سمعت أن المسلمين هاجروا إلى الحبشة أرسلت رسولين لها لينشرا دعاوة ضد المسلمين عند النجاشي حتى يخرجهم من بلاده. وكان الرسولان هما عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة. فقد وصلا إلى الحبشة وقدّما لبطارقة النجاشي هدايا كي يساعدوهما على ردّ المسلمين إلى مكة، ثمّ اجتمعا إلى النجاشي وقالا له: (أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بَعَثَنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم). فطلب النجاشي أن يسمع من المسلمين ما يقولون في ذلك، وبعث في طلبهم فلما جاءوا سألهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟ فأجابه جعفر بن أبي طالب، مبيناً حالهم أيام الجاهلية وما كانوا عليه من صفات، ثمّ بيّن ما جاء به الإسلام من هداية، وما صارت إليه حالهم بعد إسلامهم، ثم بيّن تعذيب قريش لهم (فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على سواك ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك) فقال النجاشي لجعفر: هل معك مما جاء به رسولكم عن الله من شيء تقرؤه علي. قال جعفر نعم. وتلا عليه سورة مريم من أولها إلى قوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً ؛ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ؛ وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً ؛ وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً ؛ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} فلما سمع البطارقة هذا القول، قالوا: هذه كلمات تصدر من النبع الذي صدرت منه كلمات سيدنا يسوع المسيح. وقال النجاشي: ان هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. ثمّ التفت إلى رسوليْ قريش وقال لهما: انطلقا، والله لا أسلمهم إليكما. غير أن الرسولين انصرفا من مجلس النجاشي وأخذا يفكران بطريقة أخرى، حتى إذا كان اليوم الثاني عاد عمرو بن العاص إلى النجاشي وقال له: إن المسلمين ليقولون في عيسى بن مريم قولاً فظيعاً فأرسل إليهم وسلهم عما يقولون فيه. فأرسل إليهم واستخبرهم، فقال جعفر: نقول فيه الذي جاء به نبينا، يقول: عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عوداً وخط به على الأرض وقال لجعفر: ليس بين دينكم وديننا أكثر من هذا الخط، وصرف الرسولين القرشيين فرجعا بخفيْ حُنين.

وهكذا أخفقت جميع أساليب الدعاوة وكانت قوة الحق الذي يدعو إليه الرسول عليه السلام في الصورة الواضحة التي تتجلى على لسانه تعلو على جميع الدعاوات، وكان نور الإسلام حين يشرق يبدد جميع الإشاعات والدعاوات. فلجأت قريش إلى السلاح الثالث وهو سلاح المقاطعة، واتفقوا جميعهم على مقاطعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأقاربه وكتبوا كتاباً تعاقدوا فيه على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب مقاطعة تامة فلا ينكحوا إليهم، ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم. وعلقوا صحيفة هذا العقد في جوف الكعبة، توكيداً لها وتسجيلاً، واعتقدوا أن هذه السياسة سياسة المقاطعة ستكون أفعل أثراً من التعذيب والدعاوة. وأقاموا على هذا الحصار سنتين أو ثلاث سنين، وكانوا ينتظرون أن يترك بنو هاشم وبنو عبد المطلب محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يترك المسلمون إسلامهم، فيصبح محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحيداً، وهو إما أن يرجع عن دعوته، وإما أن لا يبقى لدعوته أي خطر على قريش ولا على ديانتها، إلاّ أن ذلك لم يزد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ اعتصاماً بحبل الله وتمسكاً بدين الله، وحماسة في سبيل الدعوة إلى الله، ولم يزد الذين آمنوا معه إلا صلابة وقوة، ولم يحل دون انتشار الدعوة إلى الإسلام في مكة وفي خارج مكة، وبلغ خير حصار قريش لمحمد العرب خارج مكة فذاع أمر الدعوة بين القبائل، وصار ذكر الإسلام يفشو في الجزيرة. وتتحدث به الركبان. إلاّ أن المقاطعة استمرت والتجويع ظل سارياً، وظلت الصحيفة التي تعاقدت قريش فيها على المقاطعة نافذة. واحتمى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهله في الشِّعْب بظاهر مكة، يعانون آلام الجوع والحرمان وألوان الفاقة والعوز. ولا يجدون في كثير من الأحيان ما يسدون به رمقهم، كما أنه لم يكن يتاح لهم أن يختلطوا بالناس ويتحدثوا إليهم، إلاّ في الأشهر الحرم حيث كان ينزل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكعبة، يدعو العرب إلى دين الله ويبشرهم بثوابه وينذرهم عذابه وعقابه، ثمّ يرجع إلى الشِّعْب. وكان ذلك يثير عطف العرب عليهم فكان منهم من يقبل على دعوته، ومنهم من كان يرسل لهم الطعام والشراب خلسة، وكان هشام بن عمرو يأتي بالبعير - وقد حمله الطعام والبر - ويسير به في جوف الليل حتى يصل إلى الشعب، وهناك يخلع خطامه، ثمّ يضربه على جنبه، حتى يذهب إلى الشعب، فيأخذه المسلمون ويقتاتون بحمله، ويذبحونه ويأكلون لحمه، وظلوا على هذه الحال مدّة ثلاث سنوات متتابعة، حتى ضاقت عليهم الدنيا إلى أن أرسل الله الفرج وفك الحصار. وذلك أن خمسة من شباب قريش هم زهير بن أبي أمية، وهشام بن عمرو، والمطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود اجتمعوا وتذاكروا بأمر الصحيفة وأمر المقاطعة، وتذمروا منها، وأظهروا سخطهم عنها لبعضهم، واجمعوا امرهم وتعاهدوا على القيام بأمر يؤدي إلى نقض الصحيفة وتمزيقها، وفي اليوم التالي ذهبوا إلى الكعبة فجاء زهير وطاف بالبيت سبعاً ثمّ نادى في النّاس: يا أهل مكة أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يُباع ولا يُبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. وما كاد أبو جهل يسمعه حتى صاح به: كذبت والله لا تشق، فتصايح من جوانب البيت زمعة وأبو البختري والمطعم وهشام وكلهم يكذبون أبا جهل، ويؤيدون زهيراً. فأدرك أبو جهل أن الأمر قضى بليل، وأن القوم قد اتفقوا عليه، وأن مخالفتهم قد تثير شراً فأوجس في نفسه خيفة وتراجع، وقام المطعم ليشق الصحيفة، فوجد الأرضة قد أكلتها إلاّ فاتحتها (باسمك اللهم) وبذلك أتيح للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أن يعودوا من الشِّعْب إلى مكة، وأن يفك عنهم الحصار، فعادوا واستمر صلى الله عليه وآله وسلم على دعوته، حتى ازداد عدد المسلمين وهكذا أخفقت وسائل قريش في التعذيب والدعاوة والمقاطعة، ولم تستطع أن تفتن المسلمين عن دينهم، ولا أن ترجع الرسول عن دعوته، حتى أظهرها الله تعالى رغم كل الصعاب والعقبات.