دولة الإسلام -دولة الخلافة- كيف أقيمت وكيف تستأنف؟

لم يكن اليهود شيئاً يعتد به أمام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما كان الشيء الذي يعتد بمقاومته هم العرب بوجه عام، وقريش بوجه خاص، ولذلك عاهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اليهود معاهدات تنص على خضوعهم له، وعلى وجوب ابتعادهم عن كل من يقف ضده، إلا أنهم وقد رأوا دولة الإسلام تنمو وسلطان المسلمين يمتد أخذوا يهاجمون المسلمين بالجدل والطعن.

فلما كانت معركة بدر وكان النصر فيها للمسلمين شعر اليهود بالخطر عليهم فصاروا يطعنون بالمسلمين ويأتمرون بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكانت أخبار اليهود تصل للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين وصارت النفوس تمتلئ بالغل والضغينة وصار كل من اليهود والمسلمين يتربصون ببعضهم الدوائر، وقد ازدادت وقاحة اليهود فكان أبو عفك أحد يهود بني عمرو بن عوف يرسل الأشعار يطعن بها على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المسلمين. وكانت عصماء بنت مروان تعيب الإسلام وتؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحرض عليه، وكان كعب بن الأشرف يشبب بنساء المسلمين، ويذهب إلى مكة ينشد الأشعار ويحرض على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يطق المسلمون صبراً على ذلك فقتلوهم حتى ينـزجر اليهود، ولكنهم مع خوفهم زاد اذاهم.

فطلب إليهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يكفوا عن أذى المسلمين، وأن يحفظوا عهد الموادعة أو ينـزل بهم ما نزل بقريش، فاستخفوا بوعيده وأجابوه " لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن انا نحن الناس " فلم يبق بعد ذلك إلا مقاتلتهم، فخرج المسلمون وحاصروا بني قينقاع في دورهم خمسة عشر يوماً متتابعة لا يخرج منهم أحد ولا يدخل عليهم بطعام أحد حتى لم يبق لهم إلا النـزول على حكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتسليم بقضائه.

ثم كان أن سمح لهم أن يجلوا عن المدينة فأجلوا عنها، حتى بلغوا وادي القرى فأقاموا هناك زمناً ومن هناك احتملوا ما معهم وساروا صوب الشمال حتى بلغوا أذرعات على حدود الشام، فضعفت باجلائهم شوكة اليهود وصاروا يظهرون الخضوع للمسلمين، إلا أن ذلك كان خوفاً من القوة والبطش. ولما حانت لهم الفرصة تحركوا ثانية، فانهم لما غُلب المسلمون بأحد تحركت الأحقاد في نفوسهم وائتمروا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليقتلوه وقد أحس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنياتهم، فرأى أن يستدرجهم ليعرف نواياهم، فذهب هو وعشرة من كبار المسلمين، بينهم أبو بكر وعمر وعلي إلي بني النضير فأظهروا البِشْر والغبطة، ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما لبث أثناء تبسط بعضهم معه أن رأى سائرهم يتآمرون، ويذهب أحدهم إلى ناحية، ويدخل أحدهم البيت الذي كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مستنداً إلى جداره، إذ ذاك رابه أمرهم، وزاده ريبة ما كان يبلغه من حديثهم عنه وائتمارهم به ؛ لذلك ما لبث أن انسحب من مكانه تاركاً أصحابه وراءه يظنون أنه قام لبعض أمره.

وحينئذ أُسقط في يد اليهود واختلط عليهم الأمر وصاروا يحاولون استرضاء المسلمين، لكن أصحاب الرسول استبطؤوه فقاموا في طلبه فوجدوه قد ذهب إلى المسجد، فذهبوا إليه فذكر لهم ما رابه من أمر اليهود. وبعث محمد بن مسلمة إلى بني النضير يأمرهم أن يخرجوا من بلاده، وأجّلهم عشرة أيام ثم حاصرهم وأخرجهم فخرجوا ونزل منهم بخبير من نزل وسار آخرون إلى أذرعات بالشام.

وبذلك تم تطهير المدينة من فتنة اليهود، ولم يبق إلا بنو قريظة، فإنهم لم ينقضوا العهد فلم يتعرض لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم حين رأوا ما حل ببني قينقاع وبني النضير أظهروا المودة، غير أن ذلك كان مؤقتاً حين رأوا البطش وخافوا من قوة المسلمين، حتى إذا سنحت لهم الفرصة ورأوا الأحزاب قد جاءت للقضاء على المسلمين سمع بنو قريظة كلام حيي بن أخطب، ونقضوا عهدهم، واستعدوا لاستئصال المسلمين، وأظهروا من الخبث والغدر ما يعد أخبث نقض للعهد، ولذلك بادأهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذهاب الأحزاب فذهب إليهم هو والمسلمون وحاصرهم مدة خمس وعشرين ليلة، ولم يجرؤ اليهود أن يخرجوا طول مدة الحصار، ولما أيقنوا أن لن تغني عنهم حصونهم بعثوا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة لنستشيره في أمرنا، وكان أبو لبابة من الأوس حلفائهم في الجاهلية، فلما رأوه قام إليه الرجال وأجهش النساء والصبيان بالبكاء حتى رق لهم. فقالوا له أترى يا أبا لبابة أن ننـزل على حكم محمد، قال نعم وأشار بيده إلى حلقه، إنه الذبح، فلما انصرف أبو لبابة عنهم عرض كعب بن أسد عليهم آراء لم يقبلوها، فقال لهم : لم يبق إلا أن تنـزلوا على حكم محمد، فبعثوا إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعرضون عليه الخروج إلى أذرعات تاركين وراءهم ما يملكون، فأبى ذلك عليهم إلا أن ينـزلوا على الحكم، فاستشفعوا بالأوس فجاءوا يشفعون لهم، فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلمألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟» قالوا : بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمفذاك إلى سعد بن معاذ». فأخذ سعد المواثيق على الفريقين أن يسلم كلاهما لقضائه وأن يرضى به. فلما أعطوه المواثيق أمر بني قريظة أن ينـزلوا وأن يضعوا السلاح ففعلوا، فحكم سعد فيهم أن تقتل المقاتلة، وتقسم الأموال وتسبى الذرية والنساء، فلما سمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحكم قال: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة». ثم خرج إلى سوق المدينة فأمر فحفرت بها خنادق ثم جيء باليهود ارسالاً فضربت أعناقهم وفي هذه الخنادق دفنوا. وقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين بعد أن أخرج منها الخمس وأبقى من الغنائم ما أرسل به سعد بن زيد الأنصاري إلى نجد فابتاع بها خيلاً وسلاحاً زيادة في قوة المسلمين الحربية.

وبذلك قضى على بني قريظة، إلا أنه لم يقض على جميع اليهود. وكانت هناك خيبر وكانت أقوى قبائل اليهود ولم تكن قد دخلت مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حلف، وكانت قد تواطأت مع قريش على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل صلح الحديبية، وكان وجودها أيضاً شوكة في جانب الدولة، وما أن أتم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم معاهدة الحديبية حتى استعد لأن يضرب خيبر ضربة قاضية، فأمر الناس بالتجهز لغزو خيبر، وانطلق المسلمون في ألف وستمائة رجل، ومعهم مائة فارس، كلهم واثق بنصر الله، وذهبوا إلى خيبر ووقفوا أمام حصون خيبر متأهبين كاملي العدة، وتشاور اليهود فيما بينهم، فأشار عليهم سلام بن مشكم فأدخلوا أموالهم وعيالهم حصني الوطيح والسلالم، وأدخلوا ذخائرهم حصن ناعم، ودخلت المقاتلة وأهل الحرب حصن نطاة، ودخل سلام بن مشكم معهم يحرضهم على الحرب، والتقى الجمعان حول حصن نطاة حيث المقاتلة وأهل الحرب، واقتتلوا قتالاً شديداً حتى قيل إن عدد الجرحى من المسلمين في هذا اليوم بلغ خمسين. وتوفي سلام بن مشكم، فتولى الحارث بن أبي زينب قيادة اليهود، وخرج من حصن ناعم حيث الذخائر يريد منازلة المسلمين فدحره بنو الخزرج واضطروه إلى الارتداد إلى الحصن على أعقابه، وضيق المسلمون الحصار على حصون خيبر، واليهود يستميتون في الدفاع، وتتابعت الأيام فبعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر إلى حصن ناعم كي يفتحه فقاتل ورجع دون أن يفتح الحصن، وبعث عمر بن الخطاب في الغداة فكان حظه كحظ أبي بكر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلملأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفرّار» فدعا إليه علي بن أبي طالب ثم قال له: «خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك»، ومضى علي بالراية فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده، فتناول علي باباً كان عند الحصن فتترس به، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الحصن، ثم جعل الباب قنطرة اجتاز المسلمون عليها إلى داخل أبنية الحصن. وبعد حصن ناعم فتح المسلمون الحصون واحداً واحداً حتى انتهوا إلى الوطيح والسلالم وكانا آخر حصنين منيعين، هنالك استولى اليأس على نفوس اليهود فطلبوا الصلح على أن يحقن محمد صلى الله عليه وآله وسلم دماءهم، فقبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذلك وأبقاهم على أرضهم التي آلت له بحكم الفتح على أن يكون لهم نصف ثمرها مقابل عملهم. وبذلك خضعت خيبر.

ثم سمع اليهود من أهل فدك بخيبر فدب الرعب في قلوبهم فتصالحوا على نصف أموالهم من غير قتال، وتجهز الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للعودة إلى المدينة عن طريق وادي القرى، وفي طريقه قَبِل يهود تيماء الجزية من غير حرب ولا قتال.

وبذلك دانت اليهود كلها لسلطان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانتهى كل ما كان لهم من سلطان، فصار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمأمن في جزيرة العرب. واستقر سلطانه فاطمأن إلى الداخل كل الاطمئنان.