طباعة
المجموعة: كيف أقيمت دولة الإسلام ؟| الطريقة الفريضة

دولة الإسلام -دولة الخلافة- كيف أقيمت وكيف تستأنف؟

منذ وصل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المدينة حكم المسلمين ورعى شؤونهم وأدار أمورهم ، وأوجد المجتمع الإسلامي ، وعقد معاهدة مع اليهود ، ثم مع بني ضمرة وبني مدلج ، ثم مع قريش ، ومع أهل أيلة وجرباء وأذرح ، وأعطى الناس عهداً أن لا يمنع من البيت حاج ، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام ، وأرسل حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وسعد بن أبي وقاص في سرايا لمحاربة قريش ، وأرسل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة لمحاربة الروم ، وأرسل عبد الرحمن بن عوف لمحاربة دومة الجندل ، وأرسل علي بن أبي طالب ثم بشير بن سعد إلى فدك ، وأرسل أبا سلمة بن عبد الأسد إلى قطنا بنجد ، وأرسل زيد بن حارثة إلى بني سليم ثم إلى جذام ثم إلى بني فزارة في وادي القرى ثم إلى مدين ، وأرسل عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل من أرض بني عذرة ، وأرسل قادة آخرين إلى مناطق مختلفة ، وقاد بنفسه الجيوش في غزوات عديدة خاض بها معارك طاحنة .

وعين للمقاطعات ولاة ، وللبلدان عمالاً ، فولى عتاب بن أسيد على مكة بعد فتحها ، وبعد أن أسلم باذان بن ساسان ولاه على اليمن ، وولى معاذ بن جبل الخزرجي على الجند ، وولى خالد بن سعيد بن العاصي عاملاً على صنعاء ، وزياد بن لبيد بن ثعلبة الأنصاري على حضرموت ، وولى أبا موسى الأشعري على زبيد وعدن ، وولى عمرو بن العاص على عمان ، وولى المهاجر بن أبي أمية على صنعاء ، وولى عدي بن حاتم على طيء ، وولى العلاء بن الحضرمي على البحرين .

وكان أبو دجانة عاملاً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم حين يولي الولاة يتخيرهم ممن يحسنون العمل فيما يتولونه ، ويُشرِبون قلوب من ينـزلون عليهم بالإيمان ، وكان يسألهم عن الطريقة التي سيسيرون عليها في حكمهم ، فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لمعاذ بن جبل الخزرجي حين بعثه إلى اليمن «بم تحكم» ، قال بكتاب الله ، قال : «فإن لم تجد» قال بسنة رسول الله ، قال : " فإن لم تجد" قال أجتهد رأيي . فقال :«الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يحبّه الله ورسوله» وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه ولى أبان بن سعيد على البحرين وقال له :«استوص بعبد قيس خيراً وأكرم سراتهم».

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يرسل الولاة من أمثل من دخلوا في الإسلام ، وكان يأمرهم بتلقين الذين أسلموا الدين ، وأخذ الصدقات منهم ، ويسند إلى الوالي في كثير من الأحيان جباية الأموال ، ويأمره أن يبشر الناس بالخير ، ويعلمهم القرآن ، ويفقههم في الدين ، ويوصيه أن يلين للناس في الحق ويشتد عليهم في الظلم ، وأن ينهاهم ، إذا كان بين الناس هيج ، عن الدعاء إلى القبائل والعشائر ، وليكن دعواهم إلى الله وحده لا شريك له ، وأن يأخذ خمس الأموال وما كتب على المسلمين في الصدقات .   وأن من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاماً خالصاً من نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين ، له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم ، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يفتن عنها .   ومما قاله لمعاذ حين بعثه إلى اليمن :«انك تقدم على قوم من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله تعالى ، فإذا عرفوا الله تعالى فأخبرهم أن الله تعالى فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم ، وترد على فقرائهم .   فإن هم أطاعوا لذلك فخذ منهم ، وَتَوَقَّ كرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».   وكان صلى الله عليه وآله وسلم يرسل في بعض الأحيان رجلاً مخصوصاً للأموال ، فقد كان يبعث كل عام عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر يخرص عليهم ثمرهم .   وقد شكوا إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شدة خرصه وأرادوا أن يرشوا ابن رواحة فجللوا له حلياً من حلي نسائهم ، فقالوا : هذا لك وخففْ عنا ، وتجاوزْ في القسم .   فقال عبد الله : ( يا معشر اليهود إنكم لمن أبغض خلق الله تعالى إلي ، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم ، وأما ما عرضتم من الرشوة فإنها السحت وإنا لا نأكلها ) ، فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يكشف عن حال الولاة والعمال ، ويسمع ما ينقل إليه من أخبارهم ، وقد عزل العلاء بن الحضرمي عامله على البحرين لأن وفد عبد قيس شكاه .   وكان عليه الصلاة والسلام يستوفي الحساب على العمال ويحاسبهم على المستخرج والمصروف .

وقد استعمل رجلاً على الصدقات ( الزكاة ) فلما رجع حاسبه فقال : "هذا لكم وهذا أهدي لي"، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " ما بال الرجل نستعمله على العمل بما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي ، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فننظر أيهدى إليه أم لا»، وقال :«من استعملناه على عمل ورزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول»، وشكا أهل اليمن من تطويل معاذ في الصلاة فزجره وقال :«من أم في الناس فليخفف».

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يولي قضاة يقضون بين الناس فقد عين علي بن أبي طالب قاضياً على اليمن ، وعين عبد الله بن نوفل قاضياً على المدينة ، وأنفذ معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري قاضيين إلى اليمن ، وقال لهما :«بم تحكمان» فقالا : إن لم نجد الحكم في الكتاب ولا السنة قسنا الأمر بالأمر ، فما كان أقرب إلى الحق عملنا به .   وقد أقرهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك ، مما يدل على أنه كان يتخير القضاة ويتثبت من طريقتهم في القضاء .   ولم يكتف بتعيين القضاة بل كان يُعنى بالمظالم ، فقد وجه راشد بن عبد الله أميراً على القضاء والمظالم وجعل له صلاحية النظر في قضايا المظالم .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يدير مصالح الناس ويعين كُتاباً لإدارة هذه المصالح ، وكانوا بمقام مديري الدوائر ، فكان علي بن أبي طالب كاتب العهود إذا عاهد والصلح إذا صالح ، وكان الحارث بن عوف المري على خاتمه ، وكان معيقيب بن أبي فاطمة كاتباً على الغنائم ، وكان حذيفة بن اليمان يكتب خرص ثمار الحجاز ، وكان الزبير بن العوام يكتب أموال الصدقات ، وكان المغيرة بن شعبة يكتب المداينات والمعاملات ، وكان شرحبيل بن حَسَنة يكتب التوقيعات إلى الملوك .   وكان يعين لكل مصلحة من المصالح كاتباً أي مديراً مهما تعددت هذه المصالح .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم كثير المشاورة لأصحابه ، وما انفك عن استشارة أهل الرأي والبصيرة ، ومن شهد لهم بالعقل والفضل ، وأبانوا عن قوة وإيمان ، وتفان في بث دعوة الإسلام ، وكانوا سبعة عن الأنصار وسبعة عن المهاجرين ، منهم حمزة ، وأبو بكر ، وجعفر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وسليمان ، وعمار ، وحذيفة ، وأبو ذر ، والمقداد ، وبلال ، وكان يستشير أيضاً غير هؤلاء ، إلا أن هؤلاء كانوا أكثر من يرجع إليهم في الرأي ، فكانوا بمثابة مجلس الشورى .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم قد وضع على المسلمين وعلى غيرهم وعلى الأرَضين والثمار والماشية أموالاً ، هي الزكاة ، والعشر ، والفيء ، والخراج ، والجزية ، وكانت الأنفال والغنائم من الأموال التي لبيت المال ، وكان يوزع الزكاة على الأصناف الثمانية الذين ذكروا في القرآن ولا يعطي غيرهم منها شيئاً ، ولا يدير شؤون الدولة بشيء منها ، وكانت إدارة شؤون الناس ينفق عليها من الفيء والخراج والجزية والغنائم ، وكانت تكفي لإدارة الدولة وتجهيز الجيش ، ولم تكن الدولة تشعر أنها بحاجة إلى مال .

وهكذا أقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جهاز الدولة الإسلامية بنفسه ، واتمه في حياته ، فقد كان للدولة رئيس ، وكان له معاونون ، وولاة ، وقضاة ، وجيش ، ومديرو دوائر ، ومجلس شورى. وهذا الجهاز في شكله وصلاحياته طريقة واجبة الاتباع ، وهو إجمالاً ثابت بالتواتر .   وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم عليه وسلم يقوم بأعمال رئيس الدولة منذ أن وصل المدينة حتى وفاته صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان أبو بكر وعمر معاونيْن له ، وأجمع الصحابة من بعده على إقامة رئيس للدولة يكون خليفة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في رئاسة الدولة فقط ، لا في الرسالة ولا في النبوة ، لأنها ختمت به صلى الله عليه وآله وسلم. وهكذا أقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جهاز الدولة كاملاً في حياته وترك شكل الحكم وجهاز الدولة معروفيْن وظاهريْن كل الظهور .